مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/12/2014

خطبة د. توفيق البوطي: الأسرة المتماسكة والعناية بالطفل ضمانة سلامة وطننا


الأسرة المتماسكة والعناية بالطفل ضمانة سلامة وطننا
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( وقال سبحانه: )وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( وقال سبحانه: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا # وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا # رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا #وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ( روى البخاري عن عبد الله بن عمرو t قال: "جاء أعرابي إلى رسول rفقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين ، قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس ... " وروى البخاري أيضاً عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي r، أنه e قال: " الرحم شجنة – أي رابطة وصلة – فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته" .
أيها المسلمون: نظام الأسرة في الإسلام نظام رصينٌ متماسكٌ قوي، يقوي علاقات الأفراد في الأسرة ويحفظ حقوق هؤلاء الأفراد ضمن مجال يوفر أفضل مشاعر المودة والرحمة بين أفراد الأسرة، شجع على الزواج ووثق الرابطة الزوجية، وحفظ حق الزوجين فجعل لكل منهما حقوقاً وعليه واجبات، وكره الطلاق لما له من آثار مدمرة مفسدة، وأوجب على الوالدين رعاية الأولاد والإنفاق عليهم وحسن تربيتهم والعدل فيما بينهم، وبالمقابل فرض على الأولاد بر الوالدين وحسن معاملتهما، ثم بعد ذلك أمر بصلة الرحم وعدَّ صلة الرحم من أقرب القربات إلى الله عزَّ وجل، كما عدَّ قطع الرحم من أشد الكبائر، وهكذا غدت الأسرة في ظل الإسلام مثالاً للتماسك والتوادد مما حقق مناخاً للعفة عن الحرام ومجالاً للمودة والمحبة فيما بين أفرادها وجعلها المناخ الصحيح للتربية القويمة للنشء والرعاية الإنسانية الطيبة الراقية للأبوين، وجعل برهما من أعظم القربات إلى الله، روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: "سألت النبي r أي العمل أحب إلى الله؟ قال الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله " أي أن بر الوالدين أعظم مرتبة من الجهاد في سبيل الله، وفي بعض الروايات جعل بر الوالدين مقدماً حتى على الصلاة في أول وقتها، أيها المسلمون في ظل هذه الأزمة الخانقة الشديدة التي تعاني منها أمتنا في بلادنا هذه؛ بل امتدت آثارها إلى المناطق المجاورة، في ظل هذه الأزمة نجد أن هناك من يستغل الأزمة ليزيدها أواراً، وليؤجج نارها وليفتعل الأسباب المسوغة لدى مرضى النفوس للسير في مسالكها وللمشاركة في تأجيج نارها، فمن صائح يريد إلغاء مادة التربية الإسلامية، ومن صائح يريد تقويض بناء الأسرة من خلال تشريعات مستوردة من مجتمع متهالك، مجتمع متداع منهار متفسخ، المجتمع الغربي ليس مجتمعاً هو تجمع بشري، فالرابطة الاجتماعية بين أفراده ليست قائمة إلا على المصالح الآنية؛ لأن الاستغلال والظلم والبغي والعدوان والتفسخ الأخلاقي هو الذي يسري في أوصال هذا المجتمع، الأسرة قد انهارت والشباب والفتيات قد عزفوا وعزفن عن الزواج، وشاعت الموبقات، كيف يمكن أن يروق لهؤلاء الغربيين أن يروا المجتمع الإسلامي يزداد تماسكاً وتتوطد علاقة أفراده بين بعضهم؛ الابن يبر أبويه، والآباء يتحملون مسؤولية الرعاية والعناية والتربية لأولادهم، والأرحام فيما بينهم علاقة من المودة والصلة التي لا تنقطع وتتسع وتتسع حتى تشمل العائلة الكبيرة، ثم لكي تشمل بعد ذلك الأمة برمتها، هم ينظرون نظرة شذرٍ إلى هذا الواقع الإنساني العظيم الذي أكرم الله تعالى به هذه الأمة من خلال تماسك الأسرة والتوادد والتحابب والتعاطف بين أفرادها، الأسرة الصغيرة المتمثلة بالزوجين والأولاد إلى الأسرة الأكبر المتمثلة بالأخوال والخالات والأعمام والعمات، إلى الأسرة الأكبر التي تشمل العائلة الكبيرة إلى أن تصل إلى الأمة والمجتمع بأسره، مجتمعنا هذا مجتمع متماسك، ولذلك ينظر العالم الغربي إلى هذه الحالة الصحية النموذجية التي يسعد بها أبناء مجتمعنا نظرة حقد نظرة شذر، يريدون لهذه الأسرة أن تتداعى هم على مبدأ من قال: ( إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر ) إن كنت سأموت من العطش فلا ينزلن المطر، أي ليمت الناس كلهم، تعال واشرب من الماء الذي نشرب منه، تعال واستق من نور الهداية الذي نستقي منه، عالج مشكلتك، لا توسع مشكلتك لكي تشمل مجتمعنا. طبعاً هم لن يستطيعوا مباشرة أن يدخلوا إلى مجتمعنا إلا عبر الغزو الثقافي المتمثل في الغزو الإعلامي، فهم يقصفوننا، يقصفون مجتمعنا يقصفون أسرنا من خلال الشاشة ووسائل الاتصال العنكبوتية، يحاولون من خلالها إفساد الفرد والأسرة وليتفسخ المجتمع، ولكن لهم أدواتهم وللأسف التي استأجروها من أجل أن يعملوا مبضع التمزيق والتشتيت والإضعاف في هذه الأسرة، أنا سأذكر لكم بعض الإحصائيات، نسبة الطلاق الآن في العالم الغربي تتراوح بين السبعين إلى الخمسين بالمائة، طبعاً وليس هناك زواج، ولكن إذا ما حصل الزواج فإنه سرعان ما يتعرض هذا الزواج للانهيار، ما السبب؟ السبب هو التفسخ الأخلاقي، السبب هو افتقارهم إلى نظام اجتماعي يوطد العلاقة بين أبناء الأسرة على أساس من المحبة، على أساس من تحمل الواجبات ونيل الحقوق، والله تعالى لخص ذلك في العلاقة الزوجية فقال)وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ(: الأب له حقوق وعليه واجبات والابن له حقوق وعليه واجبات، والزوجان لكل منهما حقوق وواجبات. فديننا بنى الأسرة على أساس أن نتحمل مسؤولياتنا وعلى أساس أداء واجباتنا، يحاول البعض أن يأتوا بواقع المجتمع الغربي ومفرزات مرضه ليسقطوها على مجتمعنا هذا، فمن طرْحٍ جرى في هذه الأيام يسمى الأسرة البديلة، أو الرعاية البديلة؛ نظام الأسرة في الإسلام نظام متماسك متكامل؛ فيه الحقوق والواجبات كما أشرت، فيه حق النسب، فيه حق الولاية، فيه حق الحضانة، فيه واجب النفقة أو حق النفقة...، كل هذه المسؤوليات موجودة في الإسلام، لم يرق لهؤلاء الصنائع الأدوات أن يكون هناك نظام اجتماعي يقوم على أساس التكافل الاجتماعي ضمن الأسرة أرادوا أن يصدعوا الأسرة، إذا قصر الوالدان في رعاية الولد إذاً ننتزع هذا الولد من بين الوالدين ونزرعه في أسرة غريبة، ويبقى في الأسرة الأخرى الغريبة... والله أنا لا أعلم ترى إذا كان الأب والأم عاجزين عن رعاية ولدهما وفلذة كبدهما الرعاية اللائقة التي يستحقها، أوَيكون إنسان غريب وإنسانة غريبة قادرين على رعاية هذا الابن، فيبقى الابن في ظل هذه الرعاية إلى أن يبلغ الثامن عشرة كما لو كان في أسرته في العالم الغربي، وقد ترعاه ساقطة عمرها أربعون سنة وهو في الثامنة عشرة من عمره وعندئذ ترعاه كل الرعاية بلا شك، القيم الأخلاقية عندهم بلغت درجة أن انهارت الرابطة الاجتماعية الأسرية وشاع فيهم شاعت في ظل الأسرة الواحدة عوامل التفسخ والانحراف الأخلاقي، ولا داعي لشرح ذلك، فالأمور أقذر من أن تشرح على منبر، أتريد أن تستعيض عن تربية الأبوين، نحن عندنا هناك في حق الحضانة درجات، الأم هي الأولى فإن لم تكن فأمها، إن لم تكن فالخالة، ولاحظوا أن المقدم هنا صلة الأمومة، يعني لا نقول أم الأب وإنما نقول أم الأم، لأن عاطفة الأمومة غلَّابة في مثل هذه الحالة، هي ليست مسألة نفقة هي مسألة تربية مسألة رعاية وحنان، وتجد أنهم يتجاهلون نظام الحضانة الثابت في شريعتنا والمثبت في قانون الأحوال الشخصية...كم هاجموا قانون الأحوال الشخصية لأنه المناخ الذي تحافظ الأسرة فيه على تماسكها، وهو البقية الباقية من ديننا في مجتمعنا هذا، ونظن أن مجتمعنا يتجه بوعيه إلى ما هو أفضل لكنهم بتخلفهم وبولائهم لجهات خارجية يريدون أن يعود بنا المجتمع إلى الوراء إلى التفسخ والانهيار، نسبة الطلاق كما قلت لكم بلغت في المجتمع الغربي ما بين السبعين إلى الخمسين بالمائة، طبعاً إذا قامت حياة زوجية... كانت نسبة الطلاق في مجتمعنا هنا في سوريا لا تتجاوز واحداً بالألف، لكن بالرياح الغربية التي وصلت إلينا زادت النسبة بسبب التفسخ الأخلاقي وبسبب المشكلات الاجتماعية الوافدة إلى ما يزيد على ثلاث عشرة بالمائة، أي أننا مجتمع يتقدم إلى الوراء، إلى مزيد من التخلخل والتفسخ، هل الطلاق هو المشكلة أم أسباب الطلاق؟ لتعالجوا لا ينبغي أن نعالج الظاهرة؛ بل ينبغي أن نعالج أسبابها، أسباب الظاهرة هي المشكلة، عندما نجد نسبة الطلاق تتزايد فإن علينا أن نوجه إصبع الاتهام إلى أسباب الطلاق لا إلى الطلاق ذاته، لا يمكن أن أجبر أسرة على أن تبقى متماسكة إذا كان فيما بين أطرافها انعدام الثقة، إذا كان هناك عدم وفاق، بل أرى أن أبحث لماذا جرى عدم الثقة وعدم الوفاق، الملاحظة تبدأ من تلك النقطة، ينبغي أن نبحث عن أسباب التخلخل الاجتماعي الذي أدى إلى أن تزيد نسبة الطلاق إلى هذا الحد، وعندما نقول طلاق أي أننا نقول بعد ذلك: تشرد الأولاد، الإسلام لا يرضى أن يعيش الولد في ملاجئ أطفال، فالأطفال ليسوا بحاجة إلى طعام فقط، الطفل بحاجة إلى رعاية أبوية، الله أودع في صدر الأم لبناً تغذي به هذا الولد، وأودع في قلبها حناناً يفيض رحمة نحو هذا الطفل، وأودع في قلب الأب كذلك حرصاً على الولد ورعاية له، بمقدار ما قد أعددنا لهذا المجتمع آباء وأمهات في مستوى المسؤولية في مستوى تحمل مسؤولياتهم وواجباتهم، لكن إذا شاع التفسخ الأخلاقي فلا الأم أم ولا الأب أب، عندما يكون في المجتمع الغربي ترى الأم هذا الولد عائقاً بينها وبين متعتها فتقتله، أجل تقتله، ثمة إحصائية تقول: إنه في سنة تسعين أو ما يقاربها بلغ عدد الأولاد الذين قتلوا في إحدى تلك الدول الكبرى خمسين ألف طفل قتلوا بأيدي ذويهم، هذه ثمرة انحراف الأم، لأنها تجد هذا الطفل عائقاً بينها وبين متعتها، هل تشريعات ذلك المجتمع هي التي تصلح مجتمعنا؟ هل حالة المرض التي سرت في أوصال ذلك المجتمع هي دواء مجتمعنا؟ أم إن علينا أن نأخذ من تعاليم ديننا إرشاداته: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ( درجة الإنفاق، درجة الولاية، هناك تعاليم من شأنها أن تزيد المودة والرحمة )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( أجل فديننا يزيد من تماسك الأسرة ويوطد العلاقة بين أبنائها: يطالب كل فرد بأداء واجباته ويمنحه حقوقه يفرض على الأطراف كلها تحمل المسؤوليات و يمنحهم التمتع بالحقوق.
أيها المسلمون إن أحسن ردٍ على مثل هذه الأصوات الغريبة النشاز التي تستغل حالة التأزم في البلاد لتمرر ما لم تتمكن الدوائر الأجنبية بتنفيذه في بلادنا عن طريق الفتنة وسفك الدماء، على يد تلك العصابات المجرمة، أرادت أن تنفذه عبر وسائل أخرى من النافذة الخلفية، عبر تلك الأدوات؛ من أجل أن يتمزق مجتمعنا وينهار، إن الأسرة المتماسكة ضمانة سلامة وطننا وضمانة أمن أمتنا، ضمانة مستقبل بلادنا، عندما نحرص على الطفل وتربيته لا نقذف به إلى الفتنة وأوارها، ولا نجعله أداة للتفجير وغير ذلك، الذين يفجرون الأطفال هم أولئك الذين صنعهم الغرب وصنعتهم المؤامرة الغربية لتدمير بلادنا، أما الأب والأم فهم يحنوان على الطفل ويرعيانه خير الرعاية فإذا فسد الأب والأم فعلى الأسرة كلها السلام.
أسأل الله تعالى أن يبصرنا بالحقوق والواجبات وأن يزيد في مجتمعنا التماسك والتراحم والتعاطف، وأن يدرأ عنه الفتنة وأهل الفتنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المؤمنين.
خطبة الجمعة 2014-12-19


تشغيل

صوتي