مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/11/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: وبالشكر تدوم النعم


وبالشكر تدوم النعم
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ويقول جلَّ شأنه: )لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( ويقول سبحانه: )أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ # أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ # وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ # أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ( ثم يقول سبحانه:) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ( ويقول سبحانه )قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ # قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ # قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ # وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ # لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( وروى مسلم عن النبي r يروي عن الله U أنه قال:
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم... ثم قال: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ".
أيها المسلمون: ما أصابنا في الأسبوع المنصرم من انقطاع الماء يستوقفنا بعض الشيء لأخذ دروسٍ وعبر منه، فهو حدثٌ لم نألفه في مدينة دمشق من قبل بهذه الصورة هزَّ البلدة من أقصاها إلى أقصاها، وتجمع الناس على أبواب المساجد وحيث توجد الآبار وعلى صهاريج الماء صفوفاً وأرتالا، نساءً ورجالاً وأطفالاً يريدوا أن يملأوا أوانيهم ماءً والله سبحانه يقول: )وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ( لا تقوم المدن إلا على الماء، ولا يمكن أن تكون هناك حاضرة إلا حيث يكون الماء؛ لأنه لا تقوم الحياة إلا حيث يكون الماء، حدث هز المنطقة كلها وترك حالة من الفزع في قلوب الناس، في الحقيقة عندما كنت أرى القادمين إلى المسجد يريدون أن يملأوا أوانيهم الصغيرة كنت أتأثر، وكل إنسان كان يتأثر للمشهد المرعب الذي يجري في دمشق التي اعتادت أن يكون الماء فيها عذباً وفيراً فإذا بها تجف وتحرم من الماء، عندما نرى مثل هذا الحدث ينبغي أن نتأمله ونأخذ منه دروساً كثيرة، أول هذه الدروس أننا غافلون عن واجب الشكر مستخفّون بعظيم النعم، لا نأبه ولا نكترث للنعمة التي يكرمنا الله عزَّ وجل بها. والنعم كثيرة في مقدمتها نعمة الهداية، ثم نعمة العافية، ثم نعمة الطعام والشراب والغذاء وسائر النعم )وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا( ومن أجلّ ما تتمتع به مدينكم هذه الماء العذب الذي قيض الله له ذلك الينبوع العذب المبارك، لتنعم به هذه المدينة، فأين شكر النعمة، إنها تبدد ويستخف بها وقلما نسمع كلمة الشكر. وقد اقترنت في حالتنا هذه ظاهرتان، ظاهرة إغداق النعمة من السماء وظاهرة احتباس الماء في صنابير المياه، سوط تأديب وتذكير بنعمة، اجتمعا معاً ليذكرنا ربنا تبارك وتعالى بواجب الشكر وأن عنده العطاء وعنده المنع، وأن عنده الإحسان وعنده سياط التأديب، ولئن جرت سياط التأديب على يد أولئك المجرمين الذين لم يبالوا في أن يحرموا الملايين من النساء والرجال والأطفال من سر الحياة من الماء من أجل مواقفهم الدنيئة؛ إن دلَّ هذا يدل على مدى إجرامهم من جهة، وعلى مدى تفريطنا نحن من جهة أخرى، هم سياط تأديب بالنسبة لنا، وتصرفهم في الوقت نفسه يدل على مدى دناءة نفوسهم وروح الإجرام التي تعمقت في نفوسهم و ترسخت في ضمائرهم.
أما آن لهذه الأمة أن تستيقظ؟ أما آن لهذه الأمة أن تلقي السلاح ويعانق الأخ أخاه، ويصالح المواطنُ المواطنَ لكي ننعم ببلدنا، البلاد الأخرى تتقدم ونحن نتقهقر، الأمم تتعانق وتجتمع على مصالحها ونحن ندمر مصالحنا، من أجل ولاءٍ رهنوا أنفسهم فيه لجهات خارجية تهدف إلى تحطيم هذا الوطن وقتل هذا الشعب، فكانوا الأدوات الرخيصة لتنفيذ تلك الجريمة. أقول: هذا الوطن قد تلتهب ظهور أبنائه بسياط التأديب ولكنه مع ذلك هو في ظل كفالة الله تعالى، فلا سعدت نفوس اللئام ولا اطمأنت قلوبهم بين جوانحهم، هذا الوطن في ظل كفالة الله تعالى " إن الله تكفل لي بالشام وأهله" ولكن في الوقت ذاته لابد أن ندرك جيداً أن ما أصابنا إنما أصابنا بذنوبنا، أن ما أصابنا إنما أصابنا بتفريطنا... بظلمنا لبعضنا، باستغلالنا لبعضنا، بالأثرة التي ظهرت فيما بيننا، بالأنانية بالحرص والجشع بالاستغلال والظلم الذي يعامل الواحد منا به الآخرين، أما آن لنا أن نستيقظ؟ أما آن لنا أن نعود إلى رشدنا بعد كل سياط التأديب التي ألهبت ظهورنا؟ أجل إنه قانون إلهي )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ( وكما ورد في الحديث القدسي " إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه " )فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ( لترتفع الأكف إلى الله ضارعة تائبة من الظلم الذي يجري فيما بليننا من الاستغلال والجشع الذي اتسمت به نفوسنا، ينبغي إن نعيد قراءة واقعنا ونثوب إلى رشدنا بعد كل هذا الذي نذوقه من سياط ربنا، لا تنتظر الآخرين؛ ابدأ بنفسك، ابدأ ببيتك، ابدأ بنفسك وبولدك وبزوجتك، فإذا قام كل منا بأمر نفسه وأهل بيته ومن من حوله صلح المجتمع. واعلم أن دعاءنا والتجاءنا وصدق توبتنا باب لصلاح الحال وتفريج الكرب ودفع البلاء عن هذه الأمة، التوبة النصوح تجاوز مرض الأنانية والأثرة التي تجلت في معاملاتنا مع بعضنا.
أنا لا أشك أن كثيرين من أبناء هذا الوطن اتسموا بأخلاقٍ يندر وجودها في أمم أخرى، وجدنا فيهم الكثير من البذل والكثير من العطاء؛ بل وجدنا الإيثار وتقديم الآخر على النفس، وجدنا من يضيق على نفسه ليوسع على الآخرين، ولكنا وجدنا أيضاً الجشع والاستغلال والظلم والأنانية، يجب أن نتجاوز هذا المرض الذي انتشر فيما بيننا، يجب أن نتراحم وأن نتعاطف، إن ما يصيب أخاك من الألم يصيبك أنت، وإن ما يصيب أخاك من الحاجة والفاقة يعود بآثاره عليك، وإن ما يصيب أخاك من اليسر والسعة تستفيد منه أنت.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الاعتبار، وأن يتوب علينا ويردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن لا يحرمنا فضله وإحسانه، فنحن والله فقراء إليه ضعفاء ليس لنا من ملجأ إلا إليه.
خطبة الجمعة 28-11-2014


تشغيل

صوتي