مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 03/10/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: من وصايا رسول الله في حجة الوداع


من وصايا رسول الله r في حجة الوداع
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ( ويقول سبحانه: )إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر ( روى ابن حبان في صحيحه عن النبي r أنه قال: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبلها " وروى مسلم عن النبي r أنه خطب الناس في حجة الوداع في المشعر الحرام فقال: "اسمعوا قولي فإني قد لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" وفي رواية للبخاري أنه قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول رباً أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله وأنتم تسألون عني – أي سيسألنا الله عن رسول الله r فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال: بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس "اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد"
أيها المسلمون: يحتشد المسلمون اليوم في موقف عرفة رافعين الأكف إلى الله عزَّ وجل ملبين ذاكرين داعين باكين متضرعين، ينادون ربهم ويسألونه المغفرة ويسألونه صلاح الحال، يسألونه مما عنده والله سبحانه وتعالى له ملك السموات والأرض وعنده الخير كله، يتضرعون إلى الله عزَّ وجل في أعظم مؤتمر يجري في العالم، لكن هذا المؤتمر في عصرنا هذا فقد الكثير من معانيه، وشُلّت الكثير من فعالياته.
أما نحن فلن يفوتنا فضل الله عزَّ وجل في يوم عرفة، فيوم عرفة يوم رحمة شاملة تبلغ من كان في الموقف ومن لم يكن في الموقف، تبلغ كل من بسط يديه إلى الله تائباً سائلاً متضرعاً يتبتل بين يديه يمرغ بجبهته تراب أرضه، يسأله ويتضرع إليه يدعوه من حاجاته الدنيوية والأخروية؛ فالله تعالى هو الذي ينفع وهو الذي يضر وهو الذي يعطي وهو الذي يمنع، ولا يُسأل غيرُه؛ إن سألت غيره أخطأت الطريق، وإن رجوت غيره أذللت نفسك في غير ما طائل، لذلك "إذا سألتم فاسألوا الله وإذا استعنتم فاستعينوا بالله" فكيف وهذا يوم رحمته الذي قال فيه النبي r: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"
جدير بنا أيها المسلمون أن نجعل يوم عرفة يوماً لمراجعة ذاتنا ومحاسبة أنفسنا وقراءة واقعنا، والتأمل في هذا الواقع ومدى التزامنا بما أمر الله أو مخالفتنا لما أمر الله أو مخالفتنا لما شرع الله. فثمة أوامر وثمة نواه، فالأوامر يجب علينا أن نلتزم بها ونحرص على تطبيقها، والنواهي يجب علينا كل الحرص على تجنبها والتباعد عنها، والإقلاع عما قد ارتكبنا منها تائبين صادقين في الإنابة، صادقين في الرجوع إلى الله إلى دوحة الرضا إلى دوحة الرحمة إلى دوحة العطاء، ألم يقل الله عزَّ وجل: )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(أجل جدير بنا اليوم أن نعيد فهمنا لما أمرنا الله عزَّ وجل به ولما نهانا الله عزَّ وجل عنه، وأن نتأمل واقعنا ومدى التزامنا بما قد أمر وبما قد نهى عنه، لأننا بحاجة إلى أن نحاسب أنفسنا، ورسول الله r يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا ليوم العرض الأكبر" نعم علينا وعلى كل مسلم سواء كان في تلك البقعة المباركة في عرفة على مقربة من بيت الله الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، أو كان في أشتات أصقاع الأرض في أفاق الدنيا هنا وهناك، علينا جميعا أن نحاسب أنفسنا، أن نعيد التأمل في واقعنا، فاليوم عمل ولا حساب لكن غداً حساب ولا عمل، قد نختلف وقد نختصم وقد نتنازع، ولكن علينا إذا ما اختلفنا وتنازعنا أن نعود إلى هدي الله وهدي رسوله لفض الخصومة وإزالة الخلاف وحسم النزاع، لأن المرجع في تصرفاتنا كلها وفي مواقفنا وفي كل أحكامنا إنما هو إلى كتاب الله وسنة نبينا r، ألم يقل الله عزَّ وجل: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا( إذا ما اختلفنا فإن المحكم فيما بيننا كتاب الله وسنة رسوله r .
أيها المسلمون: ونحن هنا في يوم عرفة وإخوان لنا قد احتشدوا في موقف عرفة، علينا أن نستذكر... علينا أن نعود بذاكرتنا يوم وقف النبي r في موقف عرفة وتضرع إلى الله عزَّ وجل فيه ومن حوله خمسون ألفاً من أصحابه كلهم قد لبس البياض من الثياب لبس الإزار والرداء، لبس ما هو أشبه بالأكفان يْمثُل بين يدي الله عزَّ وجل، ويبسط كف الرجاء إلى مولاه ثم دفعوا إلى مزدلفة، وفي مزدلفة في بطن الوادي عند المشعر الحرام خاطب النبي r الأمة كلها والأجيال عبر الأجيال وكلماته اليوم تقع في آذاننا كما لو أنها تنبعث من بين ثناياه يخاطبنا كما خاطب النبي r أولئك الصحابة الكرام الذين نقلوا إلينا هذا الخطاب ممتثلين له عندما قال: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب" لئن كنا قد غبنا في أجسامنا فلقد بلغنا الخطاب في آذاننا ووصلنا الخطاب بكل معانيه، ولقد اخترت من هذا الخطاب العظيم بل الأمانة والمسؤولية التي أناطها رسول اللهr بأعناقنا يخاطب أجيال الأمة يحملهم المسؤولية بدأ خطابه بقوله:" أي يوم هذا، ثم أي شهر هذا، ثم أي بلد هذا، ثم قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" قداسةٌ وتعظيمٌ وحرمةٌ حصّن الله تعالى بها دماء أبناء الأمة وأعراضهم وأموالهم فلا يعتدين أحد على مال أحد، ولا يتجاوزن أحد على عرض أحد ولا يعتدين أحد على دماء أحد، الحقوق يجب أن تكون مصانة، الحقوق بكاملها من دماء إلى أموال إلى أعراض... كلها يجب أن تكون مصانة ويجب أن نمسك أيدينا عن أن نعتدي على دم أحد من أبناء أمتنا أو على ماله أو على عرضه، نصون ألسنتنا من النيل منه نصون أيدينا من أن نعتدي على دمه أو ماله أو عرضه، نعم قد ائتمننا رسول الله r في ذلك اليوم الذي ودع فيه الأمة قبل غيابه عنا وقبل رحيله عنها بأشهر قليلة، حملهم مسؤولية دمائهم، حملهم مسؤولية أموالهم، حملهم مسؤولية سلامة التعامل فيما بينهم، واليوم ما أحوجنا أن نتدبر ما هو الإسلام وما هي شريعته وما هي حقائقه في وقت أراد أعداء الإسلام أن يصوروا الإسلام وحشاً ضارياً، فوظفوا واستخدموا أدوات لهم تمضي في شرق الأرض وغربها، وفي بلادنا هذه، يُعملون يد التخريب والتدمير وسفك الدماء تحت اسم الإسلام، إنهما جريمتان الجريمة الأولى أن تتجاوز على حقوق الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، والجريمة الثانية أن تنسب تلك الجريمة إلى إسلام افتراءاً على الإسلام وتجاوزاً على الإسلام.
لقد تبلدت مشاعر هؤلاء الناس وانعدمت فيهم مشاعر الرحمة مشاعر الإنسانية، تحولوا إلى وحوش ضارية تعمل يد القتل في الأبرياء. لم ينجُ منهم عالم، ولم تنج منهم امرأة ولم ينج منهم طفل، فالطفل مباح الدم لهم، والعلماء مباحوا الدماء لهم، والنساء والأعراض قد استباحوها كل ذلك تحت اسم الإسلام؛ والإسلام منهم بريء، نحن نتأمل اليوم ما يجري في ساحة هذه المنطقة طولاً وعرضاً ونتساءل ما مدى علاقة هذا الأمر بديننا ؟ إنهم أرادوا أن يحاربوا ديننا باسم ديننا، ولقد وُظِّفوا لتشويه ديننا باسم ديننا، وأرادوا أن يقتلوا الإسلام بسيف ينسبونه للإسلام، الإسلام الذي وصفه الله عزَّ وجل فقال: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( وصفه سبحانه بأنه الرحمة المهداة إلى البشرية إلى الإنسانية. لقد أخطأ كثيرون، ويتوب الله على من تاب، أخطأ كثيرون، وأن يستيقظ الإنسان ولو بعد أمد خير له من أن لا يستيقظ فيلقى الله عزَّ وجل وهو عليه ساخط، فعندئذٍ لا يجدي الندم ونداؤه: )رَبِّ ارْجِعُونِ # لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً( لن يجدي معه، وإن المعاندة والاستكبار والإصرار على الإجرام والتمادي في التجاوز على حقوق أبناء هذه الأمة التي ودع بها رسول الله r الأمة في حجة الوداع؛ بتلك الكلمات العظيمة الخالدة التي تجسد حقيقة هذا الإسلام "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" فأين موقفهم وهم يمارسون جرائمهم عند المثول بين يدي الله عزَّ وجل؟
أيها المسلمون: عندما نهى النبي r عن منكر بين أنه سيكون أول من يطبق الانتهاء عن ذلك المنكر – وحاشاه أن يرتكب منكراً – لكنه أراد أن يبين للناس أنه سيبدأ بأقرب الناس إليه فقال: "ألا إن دماء الجاهلية موضوعة _ كل قتل جرى في الجاهلية سقط وانتهى فلا ثأر ولا قصاص لأمر جرى في الجاهلية- وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث –وهو من بني هاشم– وإن ربا الجاهلية موضوع – انتهى الربا من حياة المسلمين أنهاه رسول الله r وأحياه منافقون، أنهاه رسول الله r ووضعه تحت قدمه وأحياه آخرون فسوغوه وأفتوا به عدواناً وظلماً وتشويهاً لشريعة الله عزَّ وجل، ألم يقل النبي r: إن ربا الجاهلية موضوع وإن أول رباً أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب – عم النبي r – فإني أضعه كله – أسقطه كله برمته.
ثم أوصانا بالمرأة، وأن نحافظ على حقوقها وعلى مكانتها وعلى كرامتها وعلى سلامتها، وحصنُ سلامتها يكون من خلال المحافظة على حقوقها، ومن خلال صونها عن أن تصبح مبتذلة يستمتع بها، رخيصة تداس كرامتها في متناول كل معتد وكل مشته وكل متجاوز على كرامتها وعلى عرضها وعلى سلامتها. وشرع ما يمكن أن يكون سبباً لحماية المرأة من أي إساءة أو اعتداء أو تجاوز على كرامتها ومكانتها وصونها. ثم بعد ذلك خاطب النبي r من خلال أولئك الذين اجتمعوا من حوله فيقول: "وإنكم أنتم تسألون عني – يسألكم الله عزَّ وجل عن النبي r، ونحن سيسألنا الله عزَّ وجل عن رسول الله r، فما نحن قائلون؟ نقول: يا رب إن رسول الله r قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة. ولكن هل من سامع للنصيحة؟ هل من منفذ لتلك الإرشادات؟ كان حريصاً على أمته، ولكن هل كانت الأمة حريصة على نفسها؟ ألا من اجتماع يعيد هذه الأمة إلى رشدها، يعيدها إلى خط الهدى والرشاد، يعيدها إلى نهج الصواب، يعيدها إلى ما يرضي الله عزَّ وجل من سلوك وتصرف، ويبنون علاقاتهم على أساس )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ( ألا ينبغي علينا أن نعيد بناء الصف الإسلامي بناءاً صالحاً سوياً سليماً نتجاوز فيه الخلل الذي أصابه، الأمراض التي قد نالته، ألم يئن الأوان أن تستيقظ الأمة؟ إن استيقظت فذلك حظها في الدنيا والآخرة.
أقول: إن كثيرين قد استيقظت قلوبهم ووعت عقولهم وعادوا إلى رشدهم، أو أنهم كانوا راشدين فترسخ خط الرشاد في حياتهم، هؤلاء هم الذين قال عنهم النبي r: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي وعد الله" نعم أسأل الله أن يجعلنا منهم؛ ممن حافظ على العهد والتزم بالنهج، وكان حريصاً على تطبيق أوامر الله واجتناب نواهيه وكان أميناً على كلمات رسول الله r، سواء في حجة الوداع أو في غيرها، وإن كانت خطبة حجة الوداع كلماتها موجهة إلينا اليوم بشكل مباشر، أسأل الله أن يلهمنا الرشاد ويردنا إلى دينه رداً جميلاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
خطبة الجمعة 03-10-2014


تشغيل

صوتي