مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 04/12/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 4 / 12 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ* أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ويقول الله سبحانه لنبيه ﷺ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ* وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ)


 أيّها المسلمون؛ نتأمل اليوم صفحتين من سيرة المصطفى ﷺ لنجعل منهما شحذاً لهمّتنا وتثبيتاً لأقدامنا وتأييداً لإيماننا. وكما مر معنا من قبل، تواطأت صناديد الشرك على مقاطعة ومحاصرة النبي ﷺ ومن يقف إلى جانبه من صحابته أو من عشيرته. ثم مزّقت تلك الصحيفة وفشلت تلك المقاطعة وذلك الحصار بعد ثلاث سنواتٍ من المعاناة. ولكن ذلك لم يردع صناديد قريش عن الاستمرار في اضطهاد النبي ﷺ وأصحابه بل زادت قريشٌ من الإيذاء والإساءة للنبي ﷺ.


وغدا الصحابة الكرام بين معذبٍ في طرق مكة ورمضائها تلهب ظهره سياط المشركين، وبين مختفٍ مختبئٍ في بيته، وبين إنسانٍ لجأ إلى الحبشة مع من لجؤوا إليها. في تلك الظروف القاسية.. في تلك الحالة التي كان المسلمون يعانون منها، قدم إلى النبي ﷺ وفدٌ يتكون من ثلاثين رجلاً جاؤوا من الحبشة ليتعرفوا على النبي ﷺ ويفهموا مضمون دعوته التي سمعوا عنها من خلال من قدم إلى الحبشة. وجلسوا إلى النبي ﷺ واستمعوا إلى بيانه ومبادئ دعوته، وما كان يدعو إليه، وتلا عليهم آياتٍ من كتاب الله. فخالطت كلماته بشاشة قلوبهم، وتأثروا بها وما أن أنهى رسول الله ﷺ بيانه حتى أسلموا جميعاً.


وتعرض المشركون لهذا الوفد عاتبين مسفّهين إياهم لكنهم أعرضوا عنهم، وقالوا: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ). شتان بين مشركٍ أمّيٍ ليست لديه ثقافةٌ ولا معرفة، وبين إنسانٍ كتابيٍ عنده معرفة بما أتى به سيدنا عيسى وبشّر به، فوجدوا مصداق بشارته في شخص النبي ﷺ مما اقتضى منهم الدخول في الإسلام.


هذا المشهد من سيرة المصطفى ﷺ يحمل دلالاتٍ؛ لعل من أبرزها أن المسلمين وهم في غمرة معاناتهم وتحت وطأة الاضطهاد والتعذيب والقهر، تأتيهم هذه النافذة من النور والأمل لتقوية إيمانهم وتثبيت أقدامهم. إذ دعوتهم إلهي وليست دعوةً بشرية.


 والدلالة الثانية: أن دعوتهم هذه دعوة امتدت من لدن آدم عليه السلام إلى نوحٍ إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى سيدنا محمد ﷺ. فهي دعوةٌ إلهية لدينٍ واحدٍ، تعددت الرسالات لكي تؤكد معنىً واحداً وهو وحدانية الله. وأن الناس سيبعثون يوم القيامة ليحاسبوا على أعمالهم فيكافؤوا على حسن تصرفاتهم أو يعاقبوا على سوء انحرافاتهم.


إذاً فهم على حق؛ وقد ثبّتت هذه الزيارة إيمانهم وعقيدتهم، ثم إنها أيضاً حملت معنى إيمانياً عقدياً، وهو الذي نحن نؤمن به أن هذه الرسالة استمرارٌ وامتدادٌ لرسالة الله التي بعث الله بها أنبياءه جميعاً. وهذا الوفد وجد في شخص النبي ﷺ ما كان قد بشر به سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام عندما قال (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ﷺ.


الصفحة الثانية التي كانت خلال تلك الفترة أيضاً؛ أن أبا طالب مرض واشتد به المرض، وعانى من وطأة ذلك المرض. وبدا لأهل مكة أن أبا طالبٍ مفضٍ إلى الأجل. فجاء كبراء قريش ليقولوا لأبي طالب أن يقنع ابن أخيه قبل أن يموت أن يكف عن هذه الدعوة. فدعا النبي ﷺ وقال له: (ها هم أشراف مكة وكبار قريش لهم طلبٌ إليك فانظر ماذا يقولون) عرضوا عليه أن يكف عن دعوته، فقال لهم النبي ﷺ: (كلمةٌ واحدة تؤتونني إياها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم) أبو جهل قال: (وعشر كلمات)، فقال: (إلا إله إلا الله). دعاهم إلى توحيد الله، ونبذ الحجارة التي يعبدونها فصفقوا، وقالوا: (أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ) عجبوا أن يكون الله إلهاً واحداً وضموا إليه تلك الحجارة التي نحتوها بأيديهم، وجعلوها آلهةً لأنفسهم. وأعرض عنهم النبي ﷺ ومضوا خائبين لم يحققوا ما كانوا يرجون.


واشتدت وطأة الأذى على النبي ﷺ بوفاة أبي طالب، وما لبثت خديجة رضي الله عنها؛ خديجة الحصيفة العاقلة الوفية الطاهرة، التي وقفت إلى جانب المصطفى ﷺ خمسة وعشرين عاماً، واليوم ودّعت الدنيا أيضاً فخسر النبي ﷺ آنذاك أعظم دعامتين كانتا إلى جانبه. ولكن لم يكن أبو طالب ولا خديجة رضي الله تعالى عنها سوى مظهرٍ من مظاهر عناية الله، والله موجود حيٌ لا يموت، مؤيدٌ لرسوله وداعمٌ لنبيه ولسوف ينتصر وإن مع العسر يسراً.


اشتدت وطأة قريش على الصحابة الكرام وعلى النبي ﷺ وتجرؤوا كما لم يتجرؤوا من قبل وضاقت الدنيا بالصحابة الكرام وبالمصطفى ﷺ، إذ استغلقت في وجهه الأبواب وسدت في طريقه المنافذ، فصار يبحث لدعوته عن مخرجٍ وعن ثغرةٍ تنطلق من خلالها من هذا الحصار الذي حوصر به من قبل جهلة قريشٍ وصناديد الشرك.


بحث النبي ﷺ عن منطلقٍ لدعوته ومنفذٍ تنطلق من خلاله رسالته. وبدأ يتصل بالوفود التي تأتي إلى مكة، ومضى أيضاً إلى الطائف، والحديث عن الطائف قد يطول. ولكن على كل حال أقول: لم يجد النبي ﷺ في الطائف بغيته، وعاد لكي يواجه المصاعب المريرة، ولكي يجعل الله تعالى له من بعد كل ذلك العسر يسراً ومن ذلك الضيق فرجاً ومخرجاً.


أسأل الله أن يفرج عن الأمة فرجاً قريباً وكما فرج عن المصطفى وجعل له من ذلك الضيق فرجاً ومخرجاً، سيجعل الله لنا ولوطننا ولأمتنا بإذن الله تعالى فرجاً قريباً ومنطلقاً إلى ساحة النصر والتأييد بعونه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي