مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 04/10/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي : الأمانة

الأمانة


د. محمد توفيق رمضان البوطي


تاريخ الخطبة: 4/10/2019 


أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)، وذكر ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنّ الأنبياء عندما عرّفوا بأنفسهم، قال كلّ منهم لقومه: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِين)، ويقول سبحانه: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ .


أيّها المسلمون؛ أمر الأمانة عظيمٌ وخطرها كبير. فما الأمانة؟ الأمانة كلّ ما كلّفنا الله تعالى برعايته والمحافظة عليه. أعضاؤنا في جسمنا أمانةٌ ينبغي أن تستعمل فيما يرضي الله، لا في معصية الله، وينبغي أن نحافظ عليها ونرعاها حقّ الرعاية. والزّوجة في حياتك الاجتماعية أمانةٌ ينبغي أن تحسن معاشرتها وأن تؤدّي لها حقوقها وأن تناصحها وتعاملها كما أمر الله U: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ(. وهي أيضاً مؤتمنةٌ على نفسها وعلى مال زوجها، فهي مطالبةٌ بأن ترعى الأمانات التي عُهد إليها بها، وأن ترعى نفسها وتحمي نفسها من أيّ شيءٍ يمكن أن يؤدّي إلى فسادٍ أو خلل.


الوطن أمانةٌ، وقد ائتمننا الله تعالى على هذا الوطن؛ أن نحميه من أيّ غازٍ أو من أي خللٍ أو من أيّ خطرٍ نبع من داخله أو جاء إليه من خارجه. علينا أن نبذل كلّ ما في وسعنا لنحمي الوطن، فالوطن أمانةٌ في أعناقنا. وقبل هذا وذاك، الدّين الذي بُعث به سيدنا محمدٌ e وبلّغنا إياه خلال ثلاثة وعشرين عاماً، صبر وضحّى وبذل حتى مضى إلى ربه.. إلى الرفيق الأعلى، ترك هذه الأمانة بين أيدينا لكي يبلّغها السّلف لمن بعدهم ثم لمن بعدهم حتى وصلت إلينا، فما ينبغي أن نفرّط بها وقد وصلت إلينا على هذا النحو من الصّفاء والنّقاء والدّقّة والأمانة. فينبغي أن نكون أمناء على هذا الدين؛ على كتاب الله وعلى أوامر الله، بأن نلتزم بها، وأن نجتنب ما نهانا عنه. نحن مؤتمنون في مجال التجارة، أنت مؤتمنٌ أن تكون صادقاً في معاملتك، أميناً في حقوق من يعاملونك، فما ينبغي أن تغشّ ولا أن تخدع، وكذلك في الصّناعة.


 لا تقوم الحياة إلا بالأمانة، ولا تنهض الأوطان إلا بالأمانة، ولا تتحقق عزّة هذه الأمّة وكرامتها إلا بتحمّل الأمانة.


لماذا اختص الله الإنسان بالأمانة؟ فسر فريقٌ من المفسّرين قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ) بأنه كنايةٌ عن عِظَم هذه المسؤولية وضخامتها وثقلها. أما الإنسان فلقد تحمّلها بمقتضى ما متّعه الله U وأكرمه بها من صفات؛ من صفة العقل والمعرفة، من صفة الإرادة والاختيار، من تلك القدرات التي متّعه الله U بها، والتي استطاع بمجمل تلك المواهب أن يستثمر مكنونات هذا الكون وطاقاته، فيسخّرها في مجالاتٍ شتّى. فإن هو كان أميناً سخّرها في خدمة الإنسانية، وإن كان غير ذلك سخّرها في شقاء الإنسانية.


إذن؛ فمقوّمات هذه الأمانة تلك الصفات التي متع الله تعالى بها الإنسان وأكرمه بها. أرأيتم عندما قال ربنا تبارك وتعالى للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بماذا أشار إلى مزية الإنسان؟ قال: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) إنها أهليّة العلم والمعرفة. وأهليّة العلم والمعرفة مفتاح كنوز هذا الكون.. مفتاح إعمار هذه الحياة.. مفتاح عمارة هذا الكون لصالح هذا الإنسان، قال تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي: عهد إليكم بإعمارها، فما ينبغي أن تفرّطوا بهذه النعمة، ولا ينبغي أن تستثمروها على النّقيض لما خلقها فيكم.


نعم؛ بالأمانة التي أنعم الله علينا بها من خلال العلم والمعرفة والإرادة، ندرك الخير من الشرّ، وندرك الحقّ من الباطل، ونميّز بين الصلاح والفساد. وكما نميّز يمكننا أن نختار الاتجاه إلى أي من الطريقين. قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) طريق الخير وطريق الشر، طريق الحق وطريق الباطل، آتاك الله عقلاً وأنزل كتباً وأرسل رسلاً. كل هذا من أجل أن تمارس دورك العظيم في خلافة الله في الأرض، وإعمار هذه الدنيا بالخير والعدل والهدى. وبأسباب السعادة وبأسباب المحبة والوئام، لا بأسباب الشرّ والخصام، بأسباب الحياة الطيّبة، لا بأسباب الحروب والنزاعات التي تثيرها قوى الشرّ لإشقاء البشريّة من أجل مصالحها. نعم؛ عهد إليك أيها الإنسان وائتمنك على ذلك كله وسمى هذه المهمة الخلافة. استخلفك لتكون مظهر عدالة الله في الأرض، حامل لواء الهداية إلى الناس، ناشراً للخير.. ناشراً للحق.. ناشراً للهداية في أرجاء الدنيا.


أثر هذه الأمانة؛ إذا كنا أمناء وإذا أدركنا تلك المهمة والمسؤولية، إن أثرها عظيمٌ. بها ينتظم أمر الأسرة وبغيرها تنهار الأسرة. بها تتحقق الثقة بين أبناء المجتمع، وبدونها لا يمكن أن يتعاون أبناء المجتمع؛ ومن ثم فإن المجتمع سينهار، وإن الاقتصاد سينهار، وإن الوطن سيتداعى. نعم؛ بالأمانة تشيع الثقة فيما بين الناس وتشيع المحبة فيما بين الناس. بالأمانة يقود القائد أمته نحو النصر والكرامة. عندما يكون القائد أميناً فإنه يمسك بزمام هذا الأمر، ويسير بأمته نحو النصر والعزّة والكرامة، يحمي حياض الوطن من أيّ معتدٍ، أو أيّ مريدٍ لشرٍّ بهذه الأمة أو بهذه الأرض.


بالأمانة ينهض التعليم؛ أمانة المدرس أن يلقّن طلابه العلم بصدقٍ وبحرصٍ وبدأبٍ وبنشاطٍ وبحكمة، ويتابعهم على أحسن وجه، متابعةَ الأب لأولاده، متابعةَ الحريص على أمانته. وبالأمانة أيضاً يكون الطالب حريصاً على حسن التّلقي والمدارسة والمراجعة وبناء شخصيته العلمية، ليغدو أداةً لبناء هذا الوطن، ولبناء هذه الأمة، وللنهوض بحضارتها وعزّتها وكرامتها. بالأمانة تقوم الحضارات وتنهض الأمم وبدونها تنهار الأمم وتتداعى الحضارة وتنهزم الأوطان. بالأمانة يمكن أن نرقى بمجتمعنا ونبني أعظم سدةٍ لكرامة أمتنا وحضارتها. ولقد تحقق ذلك وجرى عندما كانت أمتنا متمسكةً بمسؤوليّاتها بأمانة، يومئذ نهضت أمتنا، وستنهض إن شاء الله بمقدار حرصنا وبمقدار دأبنا وبمقدار أمانتنا على ما استأمننا الله تبارك الله وتعالى عليه.


ترى كيف نحقّق معنى الأمانة؟ لقد خلق الله تبارك وتعالى هذا الكون وأودع فيه طاقات. لكن الكون كلّه يسير بأمر الله U، فينصاع لأمره بالقهر والاضطرار، إلا أن الإنسان في الجانب الاختياري منه، يطبّق هدى الله سبحانه وتعالى بالرضى والقناعة والاختيار. فيستحق على ذلك الأجر والمثوبة، أو أن يتخلى عن دوره ويتخلى عن سدّة الشرف إذ وضعه الله سبحانه وتعالى في موضع الخلافة ويهبط إلى الحضيض كما قال ربنا تبارك وتعالى عندما قال في سورة التين: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون *وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا) الذين آمنوا هم الأمناء .. الذين آمنوا هم الأيدي الأمينة على عهد الله U على ما ائتمنهم عليه من مقدّرات هذه الأمة ومن حقوقها ومن نهضتها ومن حضارتها.


نعم؛ لقد أعطي الإنسان مواهب يستطيع بها أن يمارس دوراً بنّاءً في هذا الكون. ولكنه إن تخلّى عن هذا الدور، انحطّ وصار في الحضيض. ألم يقل الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) لماذا؟ لأنه تخلّى عن الأمانة.. لأنه خان العهد.. لأنه تخلّى عن واجباته.


نعم؛ إن أمر هذه الأمانة عظيمٌ رتّب الله عليه ربنا تبارك وتعالى المثوبة أو العقاب فقال: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) وقرر الله سبحانه وتعالى تمييز أهل الخير والهدى والصلاح فقال سبحانه: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هل يمكن أن يستوي في عقولكم الخيّر والشرّير.. البنّاء والهدّام.. الصّالح والطّالح.. العالم والجاهل؟ ما ينبغي أن يستويا في ميزان عقولكم، ولن يستويا غداً في الموقف بين يدي الله عزّ وجلّ.


لاحظوا كيف أن الله U أشار إلى هذا المعنى من خلال الأوامر السّامية عندما قال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) ثم وسّع الدائرة حتى قال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) كل ذلك لبناء مجتمع العدل، مجتمع المحبة، مجتمع السعادة.. إنها جزءٌ من الأمانة التي عهد الله U بها إلى الإنسان.


لا تنمو المحبّة ولا تنمو الأمانة إلا في قلبٍ حيّ عرف الله U. القلب الحيّ الذي عرف الله U هو القلب الذي يكون صاحبه أميناً، أمّا الذي تنكّر لنعمة الله وجحد فضل الله U عليه فقد خان الله قبل أن يخون البشر، ومثل هذا الإنسان لا بدّ أن يكون خائناً للبشر. قد يكون أميناً، لمصالح اقتصاديةً أو خشيةً من سطوة ذي السلطان، ولكنه لا يؤمن جانبه ولا يُطمأنّ إليه، لأنّ الخيانة كامنةٌ في قلبه، كامنةٌ في سلوكه. إنّ الوقوف بين يديّ الله U هاجسٌ يجعل الإنسان المؤمن دائماً حريصاً ألا يقف بين يديّ الله U إلا وهو في حالةٍ ترضي الله سبحانه وتعالى.


أصاب من قال: إذا أردت أن تعصي الله فاعصه حيث لا يراك.. إذا أردت أن تعصي الله فاعصه حيث لا يراك.


أيها المسلمون؛ لن ينهض مجتمعنا إلا بالأمانة، ولن تنتصر أمتنا إلا بالأمانة، ولن يتعافى وطننا مما أصابه إلا بمقدار ما نكون أمناء على مقدّرات هذا الوطن، أمناء على أبناء أمتنا. ولولا أمانة الأمناء في القمّة والقاعدة، لما استطعنا أن ننجوَ من تلك الأزمة الخانقة والمؤامرة الكونيّة التي أرادت أن ينهار وطننا، ولكنه ظلّ شامخاً بفضل الله U بوجود تلك الأمانة في قلوبٍ أخلصت لهذا الوطن وأخلصت لهذه الأمة.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا صدق الأمانة والالتزام بعهد الله تعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة