مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/09/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: اغتنموا هذا العشر


اغتنموا هذا العشر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم في شأن البيت الحرام: )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ #فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ( وقال في حق مشركي قريش عندما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت الله إذ أراد العمرة )وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ( ويقول سبحانه: )وَالْفَجْرِ #وَلَيَالٍ عَشْرٍ # وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ # وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ # هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ( أقسم بليالي عشر ذي الحجة التي نحن مقبلون عليها لما لها من فضل عظيم ومنزلة كبيرة أشار إليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله تعالى منه في هذا العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج من بيته بماله وبنفسه فلم يرجع من ذلك بشيء".
أيها المسلمون: المسلمون في كل أنحاء العالم يتشوقون الآن للحج إلى بيت الله الحرام والطواف بالكعبة المشرفة وقد بدأ الكثير منهم يتوافدون إلى مكة؛ بل حط كثير منهم رحاله فيها ليؤدي فريضة الحج التي فرضها الله تعالى على المسلم مرة واحدة في عمره، وتلبيةً للنداء الإلهي الذي أعلنه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر من ربه يوم قال له: )وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ # لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ # ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ( نعم ملايين المسلمين تتلهف الآن للوصول إلى الكعبة المشرفة لأداء فريضة الحج وتلبية للنداء الإلهي، إلا أن المسلمين من أبناء بلادنا قد صُدّوا عن تلبية نداء الله ودعوته لهم، في سابقة لم يجرِ في تاريخ الأمة مثلها، وكأن الذين صدوهم أولياء أمر بيت الله والأوصياء عليه، هو بيت الله عزَّ وجل وليس بيت ملك ولا رئيس ولا زعيم، هو للأمة كلها وليس لنظام حاكم في الأرض، وليس من حق دولة من الدول ولا نظام من الأنظمة أن يحول بين المسلمين والحج إلى بيت الله الحرام، إلا أنها الفتنة العمياء التي طافت بأمتنا ألقت بظلالها حتى على فريضة الحج، فجعلوا من أنفسهم أوصياء ليمنعوا من شاؤوا وليسمحوا لمن شاؤوا متحالفين بذلك مع من نرى اليوم آثار تحالفهم معهم متآزرين معهم يصدون عن بيت الله تعالى ) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(
ومما يلفت النظر أن تحالفاً عجيباً قد انعقد تحت اسم مكافحة الإرهاب، جمع جهات متعددة، بأمر من الدولة التي ترعى الإرهاب في الأرض، بأمر من الدولة التي ارتهن قادتها للبرنامج الصهيوني؛ بحيث لا يرقى أحد منهم إلى كرسيه إلا بعد أن ينال موافقة دولة الإرهاب الأولى التي تربعت على حقوق الشعب الفلسطيني ومقدسات الأمة الإسلامية، تحالفٌ ترعاه تلك الدولة والدول التي تسير في فلكها لتفرض سيطرتها وهيمنتها على هذه الأرض وشعوبها ومقدراتها وثرواتها ومقدساتها أيضاً، ألم تضح الصورة؟ يجب أن نعلم أن كل ما يجري وينسب إلى الإسلام يجري لتشويه الإسلام؛ وهو هدف أساس من كل الذي نراه. يصور الإسلام بهذه الصورة، ليقال هذا هو الإسلام ولتنفير الناس من الإسلام، وهذا الأسلوب من التعبير يمارسه أناس في الصف هناك، ويمارسه أناس هنا أيضاً ينسبون هذه الممارسات إلى الإسلام، ليستثمروا ذلك من أجل التعبير عن حقدهم على الإسلام، وللأسف الشديد. وكأنهم يريدون أن يغطوا بذلك عوارهم، الأمر صار معروفاً والحقيقة مكشوفة، ولم يعد ثمة ما يمكن أن ينطلي على عقل عاقل. إن كل من يتهم الإسلام بهذا الأمر هو من أولئك الذين تآمروا على هذه الأمة ويتآمرون على سورية ويتآمرون على فلسطين ويتآمرون على مقدساتنا، ويتآمرون على مقدراتنا، سواء لبسوا ثياب المسلمين من أبناء هذه الأمة، أو لبسوا ثياب أولئك المعتدين الذين يقفون في الصف المقابل.
وبعد أيها المسلمون لا حرج فباب الله عزَّ وجل لم ينحصر في التقرب إليه لعباده المقبلين إليه في الحج إلى بيت الله الحرام، النبي صلى الله عليه وسلم أحصر ومنع من العمرة في السنة السابعة للهجرة وصدَّ عن بيت الله الحرام، ولكنه في السنة التالية وبناءً على عقد صلح الحديبية اعتمر هو وأصحابه. طبعاً اليوم لا صلح مع أمتنا ومع دولتنا، لأن الأمر أكبر من ذلك بكثير، الأمر لا يتعلق بخلافٍ بيننا وبين دولة، وإنما بجهودٍ متضافرة للقضاء على هذه الأمة وللقضاء على هذه البلاد، ولتشويه الإسلام باسم الإسلام أيضاً، أقول: إن باب التقرب إلى الله عزَّ وجل لم ينحصر في زيارة الكعبة المشرفة فكم من أجسام تطوف حول الكعبة وقلوب أصحابها بعيدة عن الكعبة، وكم من أناس أجسامهم بعيدة عن الكعبة وقلوبهم تطوف وأرواحهم تطوف حول الكعبة المشرفة، مسألة الأجساد ربنا تبارك وتعالى لا ينظر إليها "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ومن ثّم فإن بشارة الله عزَّ وجل للمقبلين عليه الذين أرادوا أن يتقربوا إليه ويسلكوا إليه سبيل التقرب والمحبة ويرغبون في الأجر الجزيل من باب رحمته؛ الباب مفتوح والفرصة متاحة، ولقد عبر عن ذلك البيان النبوي عندما قال: " ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله عزَّ وجل منه في هذا العشر" وقد أقسم ربنا تبارك وتعالى كما أشرت من قبل بهذا العشر عندما قال: )وَالْفَجْرِ # وَلَيَالٍ عَشْرٍ( فإذا أقبل هذا العشر فلقد أقبل الله عليكم برحمته، وأقبل الله عليكم بجزيل ثوابه، أقبلت عليكم فرصة من فرص التقرب إليه والتبتل بين يديه لبلوغ مرضاته والقبول لديه، عشر ذي الحجة عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم منزلة التقرب إلى الله عزَّ وجل فيه فقال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله عزَّ وجل منه في هذا العشر قالوا ولا الجهاد في سبيل الله فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" وسبل التقرب إلى الله في هذا العشر تتمثل أولاً في الإنابة إلى الله في التوبة الصادقة إلى الله من كل ذنب سواء كان في صلاة أو صوم أو أي عبادة، أو في التوبة من ذنوب الجوارح التي أكرمنا الله عزَّ وجل بها إذا استعملناها في غير ما يرضي الله عزَّ وجل، أو في التوبة من التقصير في حقوق العباد، فلابد أن نتدارك تقصيرنا في حقوق أهلينا وجيراننا وأرحامنا، أو في ديونٍ وحقوقٍ أمرنا الله عزَّ وجل بالمحافظة عليها فلابد أن نرد الحقوق إلى أصحابها وأن نكون أمناء في رد الحق إلى صاحبه والتعامل مع الخلق بكل أمانة وصدق وإخلاص.
الإسلام أيها المسلمون ليس عبارة عن طقوس وليس عبارة عن مظاهر، الإسلام في حقيقته تزكية للنفوس واستقامة في السلوك وسمو في الأخلاق والتعامل، وما لم نرقَ بإسلامنا إلى ذلك لن نمثل الإسلام بأي تصرف من تصرفاتنا، ولن نحقق معاني الإسلام، نحن إذا أردنا أن نتقرب إلى الله عزَّ وجل فبحسن الخلق، نحن إذا أردنا أن نتقرب إلى الله عزَّ وجل ونتباعد عن أسباب سخطه وعن أسباب عقوبته فبالتوبة إلى الله عزَّ وجل من المظالم؛ من أكل حقوق الناس بالباطل من الاعتداء على حقوق جيراننا وأرحامنا ونسائنا وأبنائنا وبناتنا، أن نتبرأ إلى الله عزَّ وجل من جريمة العقوق من جريمة قطع الرحم وسوء الجوار؛ كل ذلك ينبغي أن نتجنبه. إن الأخلاق الإسلامية السامية تمثل حجر الزاوية في ديننا، فإذا أردنا أن نتقرب إلى الله عزَّ وجل في هذا العشر فبالتوبة والإنابة إلى الله وبحسن الخلق والتعامل مع عباد الله.
الأمر الآخر: أبواب التقرب إلى الله عزَّ وجل واسعة: الصلوات النافلة باب من أبواب التقرب إلى الله عزَّ وجل، وصيام أيام هذه العشر باب عظيم من أبواب التقرب إلى الله عزَّ وجل، والصدقة من حيث هي من أعظم أبواب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، الصدقة تلك الهدية اللطيفة التي تعبر عن محبتك تعبر عن إخلاصك تعبر عن مشاعر المحبة التي تهيج بين جوانحك نحو أخيك الفقير... نحو أخيك المصاب، وأمتنا تعاني اليوم؛ فمالم نتراحم لن نرحم، مصيبتنا اليوم فيما بيننا أننا نظلم بعضنا وأننا لا نتراحم. ومالم نتراحم لن نرحم، ولن يكشف البلاء عن هذه الأمة إلا بعودة راشدة إلى منطق المحبة منطق التعاون منطق التعاضد منطق التعاطف " مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد " ينبغي أن يكون هذا العشر منعطفاً في حياتنا نحو التعاطف والتراحم لا نحو الاستغلال والجشع واستغلال حاجة أخيك المشرد الجائع لكي تستغل حاجته فترفع من أسعار البضاعة أو من أجور البيوت أو غير ذلك مستغلاً حاجته، ارحم عباد الله ليرحمك الله فإن لم ترحمهم فلن تُرحم، الأمر الآخر: الصيام والصدقة وإعادة لحمة المحبة والصلة الودية فيما بينك وبين أبناء مجتمعك بدءاً من الأرحام إلى الجيران إلى المجتمع ككل، يجب أن نكون أمناء على مقدرات أبناء أمتنا وأبناء حينا، أن نكون أمناء، لأن اليد التي تمتد إلى حقوق الناس سوف تحترق بتلك الحقوق التي تغتصبها بأي طريقة من الطرق بأي وسيلة من الوسائل. فلنكن أمناء على حقوق بعضنا أمناء على مقدرات بلدنا، أمناء على حقوق جيراننا وأرحامنا. هذا ما يمكن أن نكون به بإذن الله وبعون الله في عبادة هي أعظم من عبادة الحج، والمحصر ليس مطالباً بالحج، هو محصر أي ممنوع صُدَّ عن بيت الله الحرام، لكن أبواب الرحمة الإلهية أوسع من ذلك. فيجب أن نبحث عن سبل التقرب إلى الله عزَّ وجل بتوطيد علاقة المحبة فيما بيننا وبالمحافظة على حقوق الناس من جيران وأرحام وغيرهم، فالحقوق حقوق العباد مبنية على المشاحة ولن يتسامح رب العزة معنا مالم نتسامح نحن فيما بيننا، هذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التقرب إلى الله عزَّ وجل في هذا العشر، وسبل التقرب إلى الله عزَّ وجل ليست بكثرة الصلاة ولا بكثرة الزكاة ولا بكثرة التبتل والصيام، أول باب من أبواب التقرب إلى الله عزَّ وجل المحافظة على حقوق عباد الله والتخلق بالأخلاق التي أمرنا الله عزَّ وجل أن نتخلق بها فيما بيننا.
أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، ويكشف عن هذه الأمة من البلاء والشدة والكرب مالا يكشفه عنها غيره، اللهم إنا نسألك الفرج القريب، وأن تردنا إلى دينك رداً جميلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 19-09-2014


تشغيل

صوتي