مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 01/08/2014

خطبة الدكتور توفيق: ماذا قدمنا لغزة ؟


ماذا قدمنا لغزة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم:
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ولازلنا في ثمرة الصوم وأثر ثمرة الصوم، ويقول جلَّ شأنه: ) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(
ويقول سبحانه: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا # وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا # رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا # وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا # إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في ما رواه مسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا،[ويشير إلى صدره] بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه" وزاد في رواية "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وقال صلى الله عليه وسلم : " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له "
أيها المسلمون: أتابع ما كنت قد بدأت به، من أن كل شعائر ديننا تطوف حول الأخلاق القويمة، والأخلاق القويمة تهدف إلى بناء مجتمع قائم على المحبة على المودة والإخلاص، على حسن التعامل، على الوفاء والتراحم والتعاطف، فالأخلاق ليست مجاملات دبلوماسية، ولا ابتسامة فارغة يعقبها غدر وخيانة، الأخلاق أن أقف إلى جانبك وأصدقك في التعامل، وأن أكون مخلصاً لك، وفياً في الوعد، أحرص عليك كما أحرص على نفسي، أحفظ حقوقك، أحفظ حضورك وأحفظ غيبتك، أحفظ مالك وأحفظ عرضك، أن تكون المحبة فيما بيننا كمحبة أعضاء الجسد للجسد، ويتعاطف أبناء المجتمع فيما بينهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهل يمكن أن يتحقق هذا المعنى إذا لم نكن على درجة سامية من الأخلاق القويمة، هي الصورة العملية للأخلاق، والأخلاق هي مدار العبادات، وهي الوجه الآخر للعقيدة والإيمان، أرأيتم كيف دمج البيان الإلهي بين العقيدة والخلق، بين العقيدة والمعاملة فقال:) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( المظاهر التي تراها في الإسلام هي رموز تعبر عن مكنون القلوب، وإلا فهي نفاق.. وإلا فهي مظاهر كاذبة، ولا يمكن أن يتقبل الله عزوجل مظاهر لا جذور لها في القلوب، ولا أثر لها في السلوك: ) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( كيف أصبح البر كتلة متماسكة متكاملة: العقيدة مع الخلق مع العبادة مع الإيمان بالغيبيات، مع الإيمان بالكونيات التي أمرنا الله عز وجل أن نؤمن بها، وأن نعمل عقولنا في الوصول إليها، إيمانا في القلوب والعقول، وأثر وجداني يربط القلوب بالله عز وجل بالمحبة والخشية والحياء من الله والتقوى منه، ثم سلوك بينك وبين الله بالعبادات يغذي هذا المعنى يغذي صلتك بالله عزوجل، فالصوم ليس مجرد إمساك عن الطعام والشراب، لكنه تربية لهذا الوجدان، وربط للقلوب بالله عزوجل )لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ما قيمة أن أصلي في الصف الأول وآكل حقوق الناس؟ ما قيمة أن أصلي في الصف الأول وأكذب على هذا وأغتاب ذاك وأخون الثالث؟ هذا هو النفاق بعينه، وقد قال ربنا تبارك وتعالى في المنافقين: ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( إن بناء المجتمع لا يمكن أن يقوم إلا على أسس أخلاقية سامية، وإلا فإن المجتمع الذي لا يثق أبناؤه ببعضهم ويغدر بعضهم ببعض، ويكذب بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم حق الآخر، ليس بمجتمع، إنه تجمع... تجمع تتناقض مصالحه، وتتضارب اتجاهاته، ومآله التمزق والانهيار. المجتمع الإنساني لا يقوم إلا على التحابب والتوادد، من بر للوالدين إلى صلة الرحم إلى حفظ حق الجوار إلى صدق في المعاملة إلى وفاء في الوعود إلى تراحم وتعاطف.
هكذا بين لنا البيان الإلهي، ارتباط الأخلاق بالإيمان، وارتباط الإيمان والأخلاق بالسلوك كأثر من آثار العبادة التي تعبد الله بها هو الذي ينبغي أن نعيد قراءة السلوك على أساسه، أن نعيد النظر في واقعنا لماذا يا ترى أصابنا ما أصابنا؟ أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه" ومجتمعنا قائم على الظلم "لا يخذله" أخواننا في غزة يقتلون، وآخرون يحتفلون بالمباريات، وبأجمل جمل، وبأقوى دجاجة، وبأكبر مائدة للطعام تصرف على المباهاة. شعب يقتل ويذبح ونحن غائبون عن معاناتهم والكثير منا منشغل بالخريف الصهيوني وتنفيذ مقرراته..! أين نحن من قضية الإيمان التي ندعي الانتماء إليها وندعي الالتزام بها، أما اتضحت اليوم الصورة ؟
شعب ليبيا يقتل بعضه بعضاً على ماذا؟ سلوهم بالله؟ سلوا قناة الجزيرة القذرة التي أوقدت في ليبيا أقذر حرب أهلية ثم مضت وولت الأدبار لأنها حققت الهدف والغرض، هدف صهيوني، هدف أميركي؛ لتجعل من اقتصاد ليبيا لقمة سائغة بأيدي المجرمين بأيدي دولة الإرهاب وراعية الإرهاب، أين الأمة من فلسطين؟ أين نحن في سوريا؟ أين شعب مصر الذي اقتتل بعضه مع بعض حتى كادت سيول الدماء تجري على الأرض بفتنة اختلقت بين الأخ وأخيه ؟ إنه الربيع القذر، بل إنه الخريف الصهيوني الخبيث الذي تعاملنا معه بغباء، وفتحنا الأبواب مشرعة له ليدمر مجتمعنا ونجعل الفرصة متاحة ليقتل أهل غزة، ولتدمر فلسطين، وليهدم المسجد الأقصى، ولتنتهي القضية الفلسطينية، ولينتهي العرب، ولينتهي المسلمون؛ لأن المسلمون قد شتتوا منذ زمن.
هل رأينا الارتباط الوثيق بين مفهوم الصوم وبين الجذور الإيمانية وبين الثمرات السلوكية، وهل عرفنا حقيقة ما كان يجري؟ هل أدركتم الآن حقيقة ما كنا نحذر منه؟ ما كنا نحذر منه: أن نكره بعضنا بعضا، وأن يقتل بعضنا بعضا لنوفر الدم الصهيوني بدمائنا نحن، ولنوفر السلاح اليهودي بأسلحتنا نغمدها في صدور بعضنا، أجل هذا هو هدف المؤامرة. ولا يقولن قائل: وحرب غزة الماضية؟ إن حرب غزة الماضية استنهضت الأمة برمتها، فلما رأى المجرمون أن الأمة تعاطفت مع غزة المرة الأولى مزقت الأمة كي لا تقوم لها قائمة، وليتمكن هؤلاء المجرمون من قتل شعب غزة دون أن تتحرك الأمة.
أيها المسلمون: خذوها عبرة؛ شعب غزة مليون ويواجه أكبر ترسانة عسكرية في المنطقة كلها بتلك الإمكانات المتواضعة، بتلك الوسائل البسيطة قهروا وأدموا وأوجعوا أولئك الأوغاد المجرمين حتى تحركت أميركا لتدعمهم عسكرياً، أجل مليون، مليون بمائة مليون، ومائة مليون بصفر، أجل مليون بمائة مليون ومائة مليون بأصفار، لماذا؟ لأنها أغمدت أسلحتها في صدور بعضها، أهلكت وجودها بوجودها، وأجهضت نفسها بنفسها وباسم الحرية قتلوا الحرية، وباسم الديمقراطية دفنوا الديمقراطية، وباسم التضامن حطموا التضامن، أجل تضامنوا ضد بلدكم هذا، تضامنوا ضد شعب ليبيا، تضامنوا ضد الأمة باسم الأمة، فلما أوجعت قذائف اليهود شعب غزة انتهى التضامن، ومات ودفن في مقبرة جامعة الدول العربية.
لن يهزم المسلمون.... خسئوا، فربنا تبارك وتعالى سيتولى هذه الأمة، ولكن لابد من سياط التأديب أن تلهب ظهور أبناء هذه الأمة ليستيقظوا، فمن استيقظ رجع إلى ربه، ومن أبى قتلته المحنة، ودمرته المأساة وتجاوزه الزمن وسينتصر المسلمون بإذن الله تعالى. نعم إن ما يجرى اليوم في غزة، وما جرى في فلسطين قبل سنوات يوم حوصرت قرى بكاملها عشرين يوماً في فلسطين دون أن تثمر، ثم تبين أن الذين كانوا يواجهون إسرائيل في تلك القرية ستة من الأبطال، ستة أبطال واجهوا لمدة ثمانية عشرة يوما بالصواريخ والطائرات والأسلحة المختلفة.. ستة كانوا يواجهونها أدموا قلبها، أجل إذا ارتبطت القلوب بالله فلا قوة يمكن أن تقف في وجوههم، ولكن إذا كانت الأوامر تصدر من أميركا من دولة الإرهاب من راعية الإجرام، من راعية الفسق والفجور والفساد في الدنيا إذا فلنتظر مزيداً من البلاء، إذا فتحنا الأبواب مشرعة للغزو الأخلاقي وللغزو الثقافي، ولطروحاتهم في تمزيق مجتمعنا وتمزيق بلادنا والاقتتال فيما بين الأخ وأخيه وفتحنا بيوتنا وبلادنا لإسلام أميركي يقتل المسلمين باسم الإسلام، لإسلام صنعته أميركا ليشوه الإسلام إذاً فإن الفجر بعيد؛ ولكن أعتقد أن رحمة الله لابد أن تتلقفنا وتنقذنا وتعيدنا إلى رشدنا وإنا على أمل وطيد أن يعاملنا الله بواسع رحمته لا بسوء أعمالنا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يجمع كلمتنا على الحق والتقوى، وأن يوقظ قلوباً قد نامت وضمائر ماتت ونفوساً مرضت، أن يعيدنا إلى رشد نسترد به موقعنا ونسترد به وحدة كلمتنا إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 01-08-2014


تشغيل

صوتي