مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 18/07/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: العشر الأواخر من رمضان


العشر الأواخر من رمضان
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم :
)حم # وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ # إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ # فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ( ويقول سبحانه : )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ( وقال سبحانه : )إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ # وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ # لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ # تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ # سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ( وقال سبحانه : )وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال:" ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً ن غفر له ما تقدم من ذنبه " وعن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " أي في ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين والخامس والعشرين والسابع والعشرين والتاسع والعشرين؛ كما صرحت روايات أخرى، أما رواية مسلم عن أبي بن كعب " أنها في ليلة السابع والعشرين" فلعله قصد تلك السنة، وذكر من علامات ليلة القدر أن الشمس تشرق يومها ولا شعاع لها، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنه عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم "أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده " وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنه قالت :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لم يجتهد في غيره "وعن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبادة في الهرج كهجرة إلي"
أيها المسلمون: غداً يبدأ العشر الأواخر من شهر رمضان، فالفرصة لا تزال متاحة، أيامٌ لا تعوض وليالٍ لا تفوت وساعات ثمينة من عمر الزمن ثمينة من حياتك لا تبددها لا تضيعها، هي ثمن سعادتك في الدنيا وثمن سعادتك في الآخرة، ثمن سعادتك في الدنيا إذ قال الله تعالى: )فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً -أي في الدنيا- وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( في الآخرة له أجره إن شاء الله تعالى، له أجره العظيم، لكن مفتاح سعادتك هنا في الدنيا باب الله عزَّ وجل والعبودية له، عندما تشعر بضائقة تمر بك تحسس وضعك أنت إذ: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( ومحاربة الكثيرين من أعداء الإسلام لدينكم إنما تستهدف أخلاقكم، تستهدف سلوككم، تستهدف صلتكم بالله عزَّ وجل، فهم شياطين الإنس الذين جندوا أنفسهم ليصدوكم عن سبيل الله، وأساليب صدكم عن سبيل الله كثيرة، ولعل من أبرزها صرف اهتمامكم عن سلوك طريق مرضاة الله تعالى في هذا الشهر وفي غيره إلى مزالق الهوى والانحراف والضياع، من خلال البرامج القذرة التي يُصنعونها لإفساد المجتمع، لإفساد الشاب؛ لكي يودوا بأبناء أمتنا إلى السبل القذرة التي سلكوها فاستنزلوا بذلك غضب الله عليهم، وحلت بهم الأمراض إثر الأمراض، ولئن كانوا يتمتعون بشيء من متاع الدنيا اليوم؛ فإنما هي أيام قليلة، وإنما هم يغلفون بؤسهم بمظاهر الابتهاج المصطنعة، أمراض كثيرة تعيش في أنفسهم، تعيش في بيوتهم، تعيش في أطفالهم؛ الأمراض النفسية، والتمزق الاجتماعي والقلق، وغير ذلك بالإضافة إلى أمراض أخرى وهم، إذ يهلكون أنفسهم بتلك الأمراض، يقولون بلسان حالهم: إذا متُ ظمآناً فلا نزل القطر، أي فليمت الجميع بالظمأ الذي أموت فيه. ولذلك يحاول المصاب منهم بمرض ما أن يسري هذا المرض الذي أصيب به إلى كل أبناء المجتمع الطاهر، وهناك أدوات في مجتمعنا تريد لذلك الفساد أن يسري في مجتمعنا هنا، تريد أن تخدم أولئك بإهلاك مجتمعنا هذا، إن قذائف طائرات العدو على غزة وعلى غيرها التي تستهدف أمتنا ليست أشد خطراً من قذائف برامج أولئك المجرمين التي يغزوننا بها من خلال الشاشة الصغيرة ومن خلال الشبكة العنكبوتية، وشبكات التواصل وغير ذلك، نحن اليوم نجني ثمرة غفلتنا، ورحم الله من حذر الأمة قبل سنوات قليلة من مسلسل عفن يساء فيه إلى دين الله، وتشوه فيه البيوت المسلمة، ويشجع فيه على الرذيلة، أقض مضجعه عندما سمع ببث ذلك المسلسل ونحن اليوم نجني عواقب ما كان يحذر منه، نجني علقم ما قد سقتنا تلك المسلسلات. إن على أبناء أمتنا اليوم أن يستدركوا أنفسهم، ونحن في شهر التوبة, ونحن في شهر المغفرة، نحن في شهر غزوة بدر، ونحن أمام العشر الأواخر من شهر رمضان الذي فيه ليلة القدر. وليلة القدر وصفها ربنا تبارك وتعالى بأنها خير من ألف شهر، تمضي ليلة واحدة في العبادة فيكتب لك بذلك عبادة ثلاث وثمانين عاماً وأنت في بيتك، خير من ألف شهر. الفرصة متاحة فلا يضيعنها أحدنا، ولعله لا يأتي مثلها، وهل يضمن أحدنا حياته؟
أيها المسلمون: هذا هو العشر الأواخر قد أقبل، والإقبال على الله عزَّ وجل له وجوه متعددة أو كثيرة، فصيامها وجه من الوجوه، وقيام ليلها وجه من الوجوه، والاعتكاف في المساجد فيها وجه من الوجوه، والتصدق والبذل وجه من أهم الوجوه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فإذا كان العشر الأواخر ضاعف من عباداته، وزاد من جده ونشاطه في التقرب إلى الله عزَّ وجل. ألا فلنبدأ ولنشمر عن ساعد الجد، ولنقبل على الله بقلوب تائبة، بقلوب ضارعة، بقلوب صادقة، بأكف ترتفع إلى الله عزَّ وجل ليصدق فينا قوله )إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ( لا يمكن لأيدٍ ارتفعت إلى الله عزَّ وجل بالذل والافتقار، بالصدق والإخلاص بالإنابة والتضرع أن ترد خائبة، نحن اليوم لا ينبغي أن نيأس من رحمة الله، فلئن زلت بنا الأقدام في ماضٍ من حياتنا، فلنصحح المسار. ولئن قست منا القلوب فلنغسل أوضار تلك القلوب بماء البكاء، بماء التذلل، بماء التضرع إلى الله عوجل، بماء الإنابة والاستغفار، ما أحوجنا أن نعود إلى اللهوالله سبحانه يقول:)وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(، وقال فيمن فعل الكبائر : )إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ – ما قال: يغفر لهم؛ بل قال أعظم من ذلك- يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا( فلنقبل على رب كريم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي الصحيح:" من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " أقبل وأخلص تجد أن أبواب رحمة الله عزَّ وجل فتحت لك، ويوشك إما أن ينتهي منا العمر أو يغلق ذلك الباب، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق ذلك الباب، وإذا وصل أحدنا إلى سكرات الموت فلن تكون له استجابة، بهذا أخبرنا ربنا تبارك وتعالى إذ قال ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) لذلك لنتحينْ هذه الليالي العشر، ولننفق ساعاتها في العبادة والطاعة، والاعتكافُ لا يشترط فيه أن يكون متواصلاً، بل يصدق الاعتكاف على كل من دخل المسجد فنوى الاعتكاف، لذلك استكثر من الاعتكاف ما استطعت أن تستكثر، وذلك بالحرص على صلاة الجماعة وصلاة النافلة في المسجد خلافاً لغير أيام رمضان وغير أيام هذا العشر، استكثر من وجودك في المسجد، فإن استطعت أن تزيد فزد، وكلما ازدت تقرباً إلى الله عزَّ وجل ازداد عطاء الله عزَّ وجل، وازداد إكرام الله عزَّ وجل لك، عندما نرى المصائب فلنعلم أن تلك المصائب لم تأت إلا بسبب منا، بسبب غفلتنا، بسبب معصيتنا، بسبب تجاوزاتنا، بسبب ظلمنا لبعضنا، بسبب غشنا بمعاملتنا، بسبب كذبنا على بعضنا، بسبب الغيبة والنميمة، بسبب عقوق الوالدين، بسبب قطيعة الرحم، بسبب كل معصية من المعاصي سواء كانت مما يتعلق بحقوق العباد وهي الأخطر، أم كانت تتعلق بحقوق الله عزَّ وجل والله تعالى يغفر لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى.
باب الله سبحانه وتعالى مفتوح ،ورحمة الله عزَّ وجل متاحة، وهذا العشر فرصة ما ينبغي أن نفوتها، وكان بودي أن نتحدث عن غزوة بدر التي وافقت السابع عشر من شهر رمضان في العام الثاني من الهجرة، والتي تعد فيصلاً في تاريخ الدعوة الإسلامية، ومنعطفاً أيد الله فيه عباده بصدقهم؛ فئة قليلة في عددها قليلة في عدتها ضعيفة في إمكاناتها نصرت على الطغيان والاستكبار، نُصرت على أعداء الله عزَّ وجل، نصرت على الظلم والبغي والعدوان، وسينتصر الحق والعدل بمقدار ما يكون لدينا من الصدق والإخلاص لله عزَّ وجل، وسيهزم كل من رفع لواء الاستكبار والطغيان والظلم في الأرض، لا يمكن للظلم والطغيان والبغي والعدوان أن يكون مستمراً ما دام يواجهه إخلاصٌ لله عزَّ وجل والتجاء إليه وإنابة إليه. ولذلك ما أعظم أن نقبل على الله عزَّ وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " العبادة في الهرج – هذا هو الهرج الذي نراه من استحلال القتل والإجرام والتخريب والاعتداء على حقوق العبادة –العبادة في الهجر كهجرة إلي" أي بمنزلة من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، تخلى عن كل شيء وآثر الله ورسوله على دنياه على مبتغياته على شهواته، فلنجعل من ليالي هذا الشهر ليالي عبادة، ليالي توبة، ليالي إنابة نستمطر بها رحمة الله عزَّ وجل وأسباب الفرج ورفع البلاء الذي حل ببلادنا وحل بأمتنا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا السداد والرشاد، وأن يفرج عن هذه الأمة، وأن يفرج عن إخواننا في غزة، الذين ما ينبغي أن ننساهم، ولئن نسيهم من كان يحرض على الجهاد في سوريا فهم في قلوبنا، وهم في دعائنا، ولئن مكننا الله عزَّ وجل فلنشاركن في القتال هناك، ولنكونن بعون الله سبحانه وتعالى في طلائع أولئك الذين سيفتحون بيت المقدس ويحررونه من أولئك المجرمون، نعم لن نتواكل وسنبدأ من هنا لننتهي هناك، نبدأ من التوبة هنا والاصطلاح مع الله عزَّ وجل لنعلها بإذن الله عزَّ وجل حرباً على البغي والعدوان وتحريراً لبيت المقدس، سواء كان ذلك مع سيدنا عيسى أو كان ذلك في أول فرصة تتاح لنا، ما ينبغي لنا أن نتقاعس عن نصر إخواننا في غزة، ولئن نصرناهم في معركة سبقت ووقفنا إلى جانبهم، فنحن اليوم وغداً إلى جانب الحق ضد الصهاينة المجرمين. نحن مع كل من يقف مع الحق، ونحن ضد كل من يقف مع العدو أياً كانوا، كل من يقف مع العدو هو خائن لهذه الأمة، وكل من يقف مع بيت المقدس ومع غزة، هو مع هذا الدين، هو مع الله )وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 18-7-2014


تشغيل

صوتي