مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/06/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: ليلة النصف من شعبان


ليلة النصف من شعبان
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون: يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم:
)وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ # الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ # وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ # أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (
ويقول جلَّ شأنه: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(
ويقول سبحانه: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن ربكم يطلع ليلة النصف من شعبان إلى خلقه، فيغر لهم كلهم إلا أن يكون مشركاً أو مصارماً " –أي مقاطعاً– "وروى ابن حبان في صحيحه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن –مبغض ومقاطع– " وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة -كانت الليلة ليلتها فلم تشعر بوجوده إلى جانبها فبحثت عنه – فخرجت فإذا هو بالبقيع - والبقيع قريب من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأتت إليه فقال: " أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله، قلت: يا رسول الله، إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك فقال: إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب – يغفر لكل الناس إلا للكافر والمشاحن الحاقد" وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أسامة بن زيد قال: قلت يارسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من رمضان، قال:" ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال لرب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم "
أيها المسلمون: هانحن قد بدأنا بالأسبوع الثاني من شهر شعبان واقتربنا من شهر الرحمة من شهر الخير من شهر المغفرة من شهر الصيام والقيام من شهر رمضان، وشهر شعبان له شأنه ومن خلال ما قرأت من الأحاديث النبوية تجدون التنويه والتنبيه إلى عظيم شأن هذا الشهر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من صيامه، وللبيان الفقهي أقول: صيام النصف الثاني من شعبان منهي عنه إلا متصلاً بما قبله، أو لوِرْدٍ التزمه، يعني إذا كان الإنسان يصوم يوم الاثنين والخميس ويستمر على ذلك ولو بدأ النصف الثاني من شعبان، لكن أن يُحدِث صياماً بعد النصف من شعبان دون أن يكون متصلاً بما قبله ودون أن يكون لورد التزمه؛ فذلك ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. شهر شعبان شهر التوبة؛ لأن شهر رمضان شهر العطاء، والعلماء الربانيون يقولون: (التخلية ثم التحلية)، أي تطهر إناء قلبك ثم تملؤه بعد ذلك بالأنوار بالخيرات بالمبرات، لتنزل في إناء نظيف، فتكون إشعاعات هذه الأنوار منتشرة في أوصال جسدك كلها إن شاء الله، والتخلية تعني تطهير النفس من آفاتها من أوضارها من عيوبها، ولعل أبشع وأسوأ تلك العيوب: الحقد والغل الذي يمكن أن يتسلل إلى قلب الإنسان المؤمن لانقياده لوسوسة الشيطان، فالغل والحقد والكراهية إنما هي من الشيطان، ألم يقل الله عز وجل: )إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا( أنوار شهر رمضان ستكون قوية التأثير في قلبك بمقدار ما يكون هذا القلب على نقاء. ابدأ النقاء من الآن، تعرض لنفحات وأعطيات المولى سبحانه وتعالى، وليلة النصف من شعبان ليلة عظيمة يغفر الله عز وجل فيها لكل من تعرض لرحمة الله عز وجل وأقبل إلى الله سبحانه بصدقٍ وإنابةٍ وقلبٍ حاضر؛ لذلك من المستحسن أن يكثر المرء من صيام هذا الشهر، وأن يقوم ليلة النصف من شعبان، ولا تصغوا إلى أولئك الجهلة الذين يصدون عن سبيل الله، ويفهمون أن النصف من شعبان ليس له خصوصية وأن هذا من البدع أماتوا ديننا بدعاويهم البدع البدع، وهم المبتدعة، وهم الذين شوهوا ديننا ونفروا الناس من ديننا، يا سبحان الله! كل الأحاديث التي رويتها لكم صحيحة، ليست أقل من حسن؛ بل كلها صحيحة، ثم يقال لا يوجد خصوصية لشهر شعبان والنصف من شعبان وهذا بدعة!! هم المبتدعة وهم الذين ضلوا عن سبيل الله، وصدوا الناس عن القربات إلى الله عز وجل، أماتوا ديننا بقسوة قلوبهم، على كل حال، أقول: هذا الشهر فيه أعطيات عظيمة لمن تعرض لها وعطاء الله عز وجل فيه عظيم، ويكفي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يغفر لكل الناس إلا لمشرك والمشرك هنا الكافر بكل فئات الكفر، أو مشاحن، لاحظ أيها المسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذين الصنفين بمثابة واحدة: المشرك الذي هو عدو وضال ومنحرف العقيدة وشاذ عن النهج، جعله هو والمشاحن الحاقد الذي امتلأ قلبه غلاً وحقداً وضغينة على إخوانه جعلهما بمثابة واحدة، يحرمان من رحمة الله ومغفرته، لذلك ما أجمل أن نقبل على الله بتوبة نصوحة ونصطلح مع الله، ونبدأ رحلة التقرب إلى الله صلى الله عليه وسلم قبيل رمضان لكي تأتي أنوار رمضان على قلب نظيف تسطع عليه تلك الأنوار وتنشر أثرها في كل أوصال جسدنا وجوارحنا وتصرفاتنا وتفكيرنا إن شاء الله تعالى.
ما القربات التي يمكن للإنسان أن يتقرب بها في هذا الشهر إلى الله عز وجل؟
صيامه إذا استطعت أن تصوم فلا تأل جهداً في ذلك، وقيام لياليه قم ولو لدقائق قبل الفجر لتكون ممن وصفهم الله عز وجل مثنياً ومادحاً من المستغفرين بالأسحار، ألم يقل الله عز وجل: ) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( خصهم بالذكر، ومن المستحسن أن تجدد صلتك بفقه الصوم فالصيام –صيام رمضان- عبادة تتكرر في السنة مرة شهراً كاملاً من كل عام، فقد ينسى المرء أحكام الصوم، وأحكام الصوم متعددة، منها ما يتعلق بالمفطرات، ومنها ما يتعلق بشروط صحة الصوم، ومنها ما يتعلق بالآداب، ولاسيما بالنسبة للمرأة لها بخصوص أوضاعها أحكام خاصة، ولذلك فعلينا جميعاً أن نراجع أحكام الصوم ونهتم بتجديد صلتنا بها حتى نؤدي هذه العبادة على وجهها، وسوف تكون مجالس الفقه منعقدة إن شاء الله تعالى في هذا المسجد بخصوص الصوم وغير الصوم إن شاء الله تعالى اعتباراً من النصف الثاني من شهر شعبان بإذن الله، وعلى المرأة وكل من فاته صيام أيام من شهر رمضان المنصرم في العام الماضي أن يتدارك أمره، فيقضي ما عليه قبل أن يأتي رمضان هذا العام، ذلك أنه لا ينبغي أن تؤخر صيام ما فاتك من رمضان المنصرم إلى ما بعد رمضان القادم، عليك أن تتدارك الأمر فتؤدي ما عليك، وهذا الأمر يتعرض له لنساء أكثر مما يتعرض الرجال؛ لأن لها عذراً شهرياً تتعرض له –كما هو معلوم-
على النساء أن يتداركن ما فاتهنَّ من صيام رمضان الماضي قبل مجيء شهر رمضان. وإلا فعليهن القضاء والفدية، وتتكرر الفدية بتكرر السنوات أي بتعدد السنوات، وهذا أمرٌ مما ينبغي أن لا نغفل عنه، ثم نقول: ونحن في شهر شعبان الذي تحدثنا عنه أنه موسم الاصطلاح مع الله، وموسم الاصطلاح مع بعضنا، موسم تطهير القلوب من الغل والحقد والضغينة فيما بيننا، ألم يقل الله تعالى إنما المؤمنون إخوة...؟ ألم يقل الله عز وجل: )وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ(؟ ألم يقل الله سبحانه وتعالى: ) َاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ (؟..
وهذا قد يفهم منه أنه على صعيد الأمة كله بمجموعها، والأمة أفراد، فكل فرد ينبغي أن يعود إلى نفسه فينظر إلى حال قلبه تجاه إخوانه، فما كان فيه من غل أو حقد أو ضغينة فليطهر عن ذلك كله، ليطهر قلبه من ذلك الحقد والضغينة، وليصلح ما بينه وبين إخوانه – ليست هناك في قلب الإنسان المؤمن ضغينة – ومادام هذا النزاع أو الخلاف في أمر دنيوي فالمرجع فيه الشرع الحنيف، ولا ينبغي أن لا نتنازع في أمور دينية أبداً، لا ينبغي نتنازع في أمر ديننا أصلاً، لأن أمر ديننا )فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ(، مرجعنا كتاب الله وسنة رسوله، مرجعنا أن نعود إلى أحكام شرعنا وأحكام ديننا، فنصحح ما بيننا من خلال ما أمر الله صلى الله عليه وسلم به ورسوله.
أيها المسلمون: بلادنا هذه بأمس الحاجة اليوم إلى إعادة اللحمة وتماسك الصف وإزالة تلك الفجوات التي حصلت فيما بين أبناء هذه الأمة بتآمر خارجي أرادوا أن يمزقوا فيه هذا المجتمع، وينشروا بين أبنائه مشاعر الضغينة والحقد والحسد والكراهية، حتى غدا الأب يكره أولاده، والأخ يكره أخاه، والجار يكره جاره. وهذا أمر ما ينبغي أن يكون في مجتمع إسلامي أصلاً، أما وقد تجاوزنا الكثير من آلام الماضي –ولله تعالى الحمد والمنة– فينبغي أن نتجاوز تلك المشاعر السلبية التي تركتها آلام السنوات الماضية، ينبغي أن نتجاوزها بأن نتصافح ونتعانق ونتسامح ونتصافح، ونزيل تلك المشاعر التي لا يرضى بها الله عز وجل وسوف يحرم من مغفرة الله عز وجل ورحمته من أبى إلا أن يجعل قلبه وعاء للحقد والضغينة ضد إخوانه، كلنا ينبغي أن نعود إلى )وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ (وإلى ) فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( وإلى )وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ (، نحن اليوم مأمورون بأن تسود العلاقة فيما بيننا مشاعر المحبة، مشاعر الأخوة. أخوة عقدها رب العزة جلَّ شأنه بيننا، أيفتتها الشيطان وجنده؟ ويمزقها كيد الأعداء فيما بيننا؟ ونحن في مواجهة فتنة عمياء تركت آثارها فيما بين أبناء مجتمعنا. علينا أن نعود إلى رشدنا، نتجاوز كل تلك المشاعر السلبية التي خلفتها السنوات الأليمة التي عانينا منها ما عانينا، نحن كما وصفنا الله عز وجل إخوة فما ينبغي للشيطان أن ينزغ فيما بيننا، ويثير مشاعر الكراهية فيما بيننا، سوف نلقى الله عز وجل وهناك ينادى للمتحابين في الله ويُطرد من جعلوا قلوبهم أوعية للحقد والضغينة، فلا تحرموا أنفسكم من ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، ولا تحرموا أنفسكم من رحمة الله التي يخصُّ بها المتحابين من عباده من أبناء هذه الأمة المباركة.
إننا لنرجو أن تكون هذه المقدمات التي عشناها بداية مشرقة مباركة لتسامح وتصالح وتآخٍ وتجاوزٍ لكل تلك المشاعر التي لا يرضى بها الله وتضر بأمتنا وتضر بمجتمعنا.
أسأل الله سبحانه أن يسدد الخطى لما فيه رضاه، وأن يصلح ذات بيننا، ويؤلف بين قلوبنا وينصر أمتنا على أعدائها إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 6-6-2014


تشغيل

صوتي