مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 31/05/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته 2


كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته - 2
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد: فيقول الله تعالى: )قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( روى البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك، وأنه كتب إليه "أنه يقر له بالسمع والطاعة، يقر لعبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت" وعبد الله بن عمر بن الخطاب صحابيٌ جليل، وعبد الملك بن بني أمية من التابعين، وروى البيهقي عن العرباض بن سارية قال: صلى لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم اللهُ تعالى".
أيها المسلمون: أمتنا مقبلة على منعطف في تاريخها، في وجودها، فيما يستقبلها من أمور، وتوشك جهات ما من خارج بلادنا على أن لا يتم الأمر، وكأن استقرار بلادنا وطمأنينة مواطنينا وسلامة أعراضنا وبيوتنا ومستقبلنا أمر يقضُّ مضجعهم، ويسوؤهم أن يستتب الأمر وأن يستقر الحال، وأن يعود الأمن والأمان، يسوؤهم أن يستقر أمر هذا البلد على وضع يتحاور فيه أبناؤه، وتتجلى علامات كثيرة تشير إلى أن أبناء هذا الوطن قد عرفوا خطورة ما هم فيه، وأدركوا ما قد أقحموا فيه من نفقٍ مظلمٍ قذر أودى بهم إلى ما نرى، وأوصلهم إلى الحالة البائسة التي لم يذكر التاريخ لها نظيراً، نحن نقول: إن أمر استقرار هذا البلد وطمأنينته وسلامته وحوار أبنائه واصطلاحهم مع بعضهم، ومعانقة أبناء هذا البلد الذين زُجّوا في صراع ذاتي فيما بينهم، الأخ مع أخيه، والجار مع جاره، والقرية مع المدينة، ولم يدع أهل الشر وسيلة لتفتيت هذا الوطن وتمزيق هذا البلد إلا بذلوا جهدهم في سبيل تحقيق ذلك، عانى أبناء بلدنا من حالة بائسة قاسية شديدة من عدم الاستقرار، من الاضطراب، من فقد الأمن، من عدم الطمأنينة.. من سفك الدماء.. من الدمار إلى التشرد إلى الفقر إلى غير ذلك، حتى عرف الناس أنه لابد لنا من مخرج، والمخرج ليس قراراً خارجياً، وليس اختياراً من أمريكا ولا من غيرها، المخرج نحن نختاره، المخرج مخرجنا من مأزق قد زججنا فيه، قد أدخلنا في هذا المأزق، ونحن الذين نختار طريقة الخروج من هذا المأزق، ولسنا بحاجة إلى أوصياء. لقد انتهى عهد الانتداب انتهى عهد الوصاية، انتهت تلك العهود المظلمة التي أريد بها أن تلين قناةُ هذه الأمة لتصبح أداة رخيصة طيعة بأيدي أعدائها، انتهى ذلك العهد، انتهى في عام ست وأربعين، وكان ذلك الاحتلال تمهيداً لوجود ذلك السرطان القذر في أرض فلسطين، كان ذلك الانتداب توطئة لدخول عهدٍ يتسلم فيه مقدساتِنا أراذل الخلق، نفايات الشعوب، واليوم يبدوا أن أي حالة من الاستقرار في أمتنا أمرٌ يهدد وجود ذلك السرطان، وأي حالة من الاستقرار في وطننا في بلادنا يعنى ذلك أننا بدأنا طريق مراجعة الذات، وبدأنا نبحث عن مخرج يؤدي إلى بطرد أولئك الأوغاد الذين اغتصبوا مقدساتنا، وأساءوا إلى المسجد الأقصى، وأساءوا إلى أبناء أمتنا في فلسطين وفي غير فلسطين، أجل نحن بحاجة إلى استقرار، نحن بحاجة إلى أمان، نحن بحاجة إلى طمأنينة، وهذا الاستقرار والأمان والطمأنينة ووحدة هذه الأمة ووحدة هذا الشعب، ووحدة تراب هذا الوطن ليس بقرار من الأمم المتحدة، ولا بأولئك الذين يوقدون نار الفتنة في بلادنا، ويقدمون السلاح لسفك دماء أبنائه بيد أبنائه، وبيد نفايات جلبت من هنا وهناك لقتل هذه الأمة وتمزيق هذا الوطن، كفى...نحن اليوم بحاجة إلى استقرار، وهذا الأمر منوط بنا نحن ولا يجوز لأي أمة مهما كانت أن تفرض وصاية أو انتداباً أو قراراً ما على أمة تملك قرارها. هذا بادئ ذي بدء.
الأمر الآخر: أياً من كان من سيتولى أمر هذه الأمة ويكون ولي أمرٍ لها: هو مسؤول بالدرجة الأولى بين يدي الله أن يكون أميناً على دين هذه الأمة ودنياها، حريصاً على مصالحها وعلى وحدة كلمتها وسلامة أرضها، وأن يلتزم في معاملته للرعية مقتضيات العدل، وأن يحرص على تحقيق الخير والوئام بين أبنائها على النحو الذي أمر الله تعالى به، وأن يكون حريصاً على قوة هذه الأمة وسلامة حقوقها في كل ما استأمنه الله تعالى به من مقدراتها قدر وسعه، وأن يستعين في سبيل تحقيق ذلك بمن يراه أهلاً لذلك من أبناء هذا الوطن.. بالقوي الأمين ممن توافرت فيهم الكفاءات والقدرات وعرفت عنهم الاستقامة، وعرف عنهم الحرص على مصالح هذه الأمة، ومصالح هذا الوطن، هو مسؤول أمام الله عز وجل عن تحقيق هذا كله. وهذا الوطن أطياف متعددة ولكن سلامة أبنائه وسلامة بنائه وسلامة مستقبله كل ذلك منوط بما قد أشرت إليه من أمور، ليس هناك تميز في هذا الوطن بين أي طيف وآخر، يجمعهم جميعاً أنهم مسؤولون عن سلامة هذا البلد وترابه ومصالحه، عندما كتب النبي صلى الله عليه وسلم الوثيقة لدى وصوله إلى المدينة المنورة وبناء الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، حمَّل مسؤولية حماية المدينة المنورة على كل أبناء المدينة المنورة من مسلمين ويهود، وكان اليهود يومئذٍ من رعاية تلك الدولة، لم ينبذهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسئ إليهم، وعندما غدروا عوقب الغادر بما يتناسب مع غدره.
أما واجب الأمة فإن عليها أن تطيع ولي الأمر فيما لا معصية فيه، في المنشط والمكره، أي في حالة اليسر وفي حالة العسر، وأن تكون لولي الأمر عوناً في سبيل تحقيق وحدة كلمة أبناء أمتنا، وسلامة وطننا، وأن توجه النصح بإخلاص إليه، على النحو الذي أمرنا الله عز وجل به، بما يحقق مرضاة الله سبحانه وتعالى، وإذا ما ولّى ولي الأمر أحداً من أبناء هذه الأمة بأمرٍ فينبغي أن يكون أميناً عليه، حريصاً ومخلصاً فيه، وعلينا -أبناء هذه الأمة– أن لا ننازع الأمر أهله وأن ندافع عن ولي الأمر وعن الوطن وعن الأمة وعن مقدراتها في مواجهة أي إساءة أو عدوان، أو أي عدو خارجٍي يريد إثارة الفتنة وتمزيق وحدة الأمة والنيل من سلامة هذا الوطن، تلك مسؤوليات ولي الأمر، وهذه مسؤوليات الرعية، وعلينا أن نتحمل مسؤولياتنا على النحو الذي أمر الله عز وجل به، لا نطيع فيما فيه معصية، ونطيعه في المنشط والمكره وعلى أثرة منا، حتى وإن ظُلِم أحدنا فإن عليه أن يَسمع ويطيع، بهذا أُمِرنا لأن الخروج على ولي الأمر خطر يهدد الأمة بأسرها، لا يهدد فرداً بعينه، نقول: هو واجبه أن يعدل، ونحن واجبنا أن نسمع ونطيع وأن نحرص على سلامة هذه الأمة وسلامة هذا الوطن، وكلنا نتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على إثم ولا على عدوان.
خطبة الجمعة 30/05/2014


تشغيل

صوتي