مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/05/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: حياتك تحت سلطانه فتدبر أمرك


حياتك تحت سلطانه فتدبر أمرك
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد: فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم )تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ # الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( وقال سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ويقول سبحانه: )وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( ويقول جلَّ شأنه: )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ # مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ # بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ( روى الترمذي وابن أبي شيبة في مصنفه وغيرهما، عن ابن عمر y، قال: أخذ رسول الله r بيدي أو ببعض جسدي، فقال لي: «يا عبد الله بن عمر، كن في الدنيا غريباً أو عابر سبيل، وعدَّ نفسك من أهل القبور، وقال: إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك قبل موتك، ومن صحتك قبل سقمك، فلا تدري يا عبد الله ما اسمك غداً – أي في الأحياء أم في الأموات -» وروى الحاكم في مستدركه وغيره ، بإسناد صحيح عن ابن عمر y، قال: كنت مع رسول الله r فجاءه رجل من الأنصار، فسلم عليه r ثم قال: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل، قال: «أحسنهم خلقاً، قال: فأي المؤمنين أكيس – أي أعقل - قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس – أي العاقلون الفطنون - »، وقال علي بن أبي طالب t: ((إن الدنيا قد اتحدت مدبرة، وإن الآخرة مقبلة ، ولكلٍ منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل ))
أيها المسلمون: بدأنا الحديث بالآية القرآنية )تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ # الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ( بدأ بالموت لأنه الأصل فنحن لم نكن، ثم خلقنا، خلقنا دون مشيئتنا ودون إرادتنا، ودون اختيارنا، وجدنا في هذه الحياة لسنا نحن الذين أردنا الحياة لأنفسنا؛ بل أراد من خلقنا لنا الحياة، فالأمر بيده، والحياة تحت سلطانه والموقف بين يديه، ولسنا مالكين لحياتنا، فالحياة أمر يملكه رب العزة جلَّ شأنه، الذي أراد فلا راد لمراده، وقضى فلا راد لحكمه، قضى أن توجد باختياره، بإرادته، بقضائه بحكمه الذي لا مناص منه، وزجك في هذه الحياة، ثم ميزك، عن سائر الخلق بالعقل، بقدرات تستطيع بها أن تفتح مغاليق هذا الكون، وأسند إليك أقدس مهمة في هذا الوجود، إنها الخلافة، خلافة الله في الأرض، أسندها إليك تكليفاً، فإن تحملتها كانت تشريفاً، وإن تنصلت منها كانت مسؤولية، كانت مسؤولية. ومن قضى عليك بالحياة دون إرادتك قضى أن تنتهي بدون مشيئتك، قضى أن يأتيك الموت شئت أم أبيت، رضيت أم كرهت، وليس هناك موعد للموت لا تعرفه، علم ذلك عند الله وحده، عند الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يملك الأمر كله، المآل إليه، والحياة تحت سلطانه، وقد خلقت في هذا الكون وكلفت بمسؤوليات، ومتعك الله تعالى بكثيرٍ من المواهب والقدرات التي تستطيع بها ممارسة مسؤولياتك، أعطاك عقلاً تدرك به حقائق هذا الكون وتعرف به وجود ربك ، وجود خالقك، وعبوديتك لخالقك. فتدبر أمرك، وترقب مصيرك، لم يكن يوماً ما الموت مرهوناً بالشيخوخة، وإن كانت الشيخوخة علامة من علاماته. ولم يكن الموت مرهوناً بالمرض، وإن كان المرض علامة من علاماته، فقد يأتي الموت دون سابق إنذار ونسبة من يموت من الشباب أكثر ممن يموت من الشيوخ بسببٍ أو بآخر، فالأمر تحت سلطانه، ليست هناك سننا تحكم على الله؛ بل إن الله هو الذي وضع تلك السنن ، وليست هناك قوانين تلزم رب العزة؛ بل إنه هو الذي أرسى تلك القوانين، فتدبر الأمر وتفكر بحالك وفي مآلك. نحن هنا وجدنا لوظيفة، والمآل قريب، أنت تدرك جيداً كم مضى من عمرك، ولكن ترى هل تدري كم بقي لك من الحياة )وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ( الأمر عنده وبقضائه وقهره الذي سير هذا الكون وهيمن على وجوده وسير حياتك على النحو الذي ترى، سواءٌ في طعامك أم شرابك أم هضمك أم غير ذلك، كل ذرة من كيانك تشهد بأنك عبد ضعيف خاضع لحكمه، خاضع لسلطانه، خاضع لقضائه، لذلك لك أن تبحث عن مخرج وتمارس كل ما تشتهي وترغب إذا استطعت أن تملك حياتك، إذا استطعت أن تملك زمام حياتك ووجودك، أما إذا كانت هذه الحياة التي تحياها ليس لك فيها من الأمر شيء ؛ فانظر إلى من يملك تلك الحياة وما قد قدّره في حقك، واستعد للمثول بين يديه، ذلك الإله الذي قال لنا:) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ # فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ( )أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ # مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( مالكم؟ أين عقولكم؟ أين فهمكم لحقيقة وجودكم؟ أين ملاحظتكم لسنن الله التي قهرتكم وأنت الذين تحملون بعضكم إلى مثواهم إلى تلك القبور ؟
مثالٌ كررته أكثر من مرة وأرى أنه مناسب أن أكرره اليوم أيضاً: سلطان ذو نفوذ قوي سجن بعضاً من الناس في سجن آتاهم فيه كل مشتهيات أنفسهم من طعام وشراب ومنامٍ وغير ذلك، ومضوا يتمتعون بألوان مشتهياتهم، وفي صبيحة يوم نادى منادي السلطان: إن السلطان قد حكم على سجناء هذا السجن بالإعدام شنقاً. وفعلاً بدأ تنفيذ الحكم ... بالله أسألكم هل سيتمتع سجناء هذا القصر بهذه الحدائق الغناء، وهذا الطعام الطيب هل سيتمتعون بعد اليوم بطعامهم وشرابهم، ومنامهم وفرشهم، وأسباب الرفاهية التي تطوف من حولهم، حدثوني
أيها المسلمون: ألسنا سجناء هذه الدنيا؟ أليس قد أحكم سلطانُ هذه الدنيا قبضته عليها، فلا حركة ولا سكون إلا بأمره ن ولا موت ولا حياة إلا بإذنه؟ ألا نرى أنه قد حكم علينا بالموت فقال: )كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ( فما بالنا في غفلتنا سائرين ما بالنا عن مصيرنا غافلين عن الموقف بين يدي ربنا منصرفين.. ما بالنا؟ ما بالنا نتناسى قضاء الله المبرم، وحكمه القاهر )كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ( إن هذا الحكم يقتضي منا أن نعيد النظر في كل أمورنا ، في كل مواقفنا ، في كل تصرفاتنا ، في كل أوضاعنا ، ينبغي أن نتدبر الأمر، فمن يعمل – هكذا بين لنا - )فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ #وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( أجل هذا حكمه، وهذا بيانه، لك أن تتحرر من كل ذلك إذا استطعت أن تفلت من قبضة حكمه فتملك حياتك، أما وإن حياتك تحت سلطانه فتدبر أمرك، تدبر الأمر جيداً، وهذا الأمر يدفع بنا إلى أن نتأمل واقعنا، مواقفنا، تصرفاتنا، آراءنا، علاقتنا، من ولاء إلى معارضة ، من محبة إلى كراهية، من نصرة لهذا الفريق إلى نصرة لذلك الفريق، من عصبية، من غير ذلك )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ( ينادون بالحرية، ويدمرون الدنيا من أجل الحرية، أي حرية؟! أنت عبد بكل ذرة من كيانك شئت أم أبيت )وَيَأْتِينَا فَرْدًا( أي حرية؟ الحرية الحقيقة هي أن تكون عبداً لله.
ابحث عن موطئ قدمك وصحة مسارك، وعن سلامة تصرفاتك، ابحث عن انضباطك بشرع الله لا بالهتافات الفارغة، ولا بالشعارات الجوفاء، أنت أياً كنت من هذا الصف أم من ذاك، أنت عبد لله عزَّ وجل، وستمثل بين يديه، وستحاسب على النقير والقطمير)فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(.. الدماء الخراب البناء الإصلاح كل هذه الأمور ستجدها غداً في صحائف الأعمال، صلاتك، صيامك، علاقتك بين أهلك وجيرانك، علاقتك مع من تتعامل معهم، واجباتك الدينية والتزاماتك الدنيوية، كل ذلك أنت مسؤول عنه )وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( )فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ # وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ( نحن سجناء هذه الدنيا، وقد أحكم ربنا سلطانه علينا، وهذا أمر نراه بأم أعيننا، وفي كل يوم نحمل على أكتافنا من نودعهم من ذوينا وأحبائنا وجيراننا، لننطق بلسان الحال أننا عبيد وأن الموقف بين يدي الله، وأن اليوم عمل ولا حساب، ولكن غداً حساب ولا عمل.
خطبة الجمعة 9-5-2014


تشغيل

صوتي