مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 02/05/2014

خطبة الدكتور توفيق البوطي: صفات عباد الرحمن 4


صفات عباد الرحمن 4
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم في وصفه لعباد الرحمن الذين اختصهم الله سبحانه بمنزلة كريمة وشرف عظيم: )وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا # وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا # وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا # أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا # خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا # قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(
أيها المسلمون: سبق أن عرضنا صفات عباد الرحمن، واليوم نحن مع صفات عظيمة ومهمة من صفاتهم، أولاها أنهم لا يشهدون الزور: لا يحضرون ولا يتكلمون ولا يشهدون شهادة الزور، وهي الكذب والتزوير والبهتان والافتراء، هذه الصفات لا يمكن أن تكون في عباد الرحمن الذين وعدهم الله تعالى بحسن الجزاء في الآخرة )وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ( روى البخاري قال: عن أنس t قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر قال : "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور" وفي حديث آخر ورواه البخاري أيضاً: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين – وجلس وكان متكئاً –فقال: ألا وقول الزور " قال : فمازال يكررها حتى قلنا : ليته سكت.
إن أسوأ قول الزور - وكله قبيح - إلا أن أقبحه ما عبر عنه البيان الإلهي بقوله سبحانه: )وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( يفعلون الجريمة ويلصقونها بغيرهم، يرتكبون أقذر الجرائم ثم يمسحون دماء الجريمة التي تلوثت بها أيديهم بغيرهم، تلك أقبح أنواع شهادة الزور، وأقبح أنواع الافتراء والبهتان، الذي لا يتصف به إلا من خلا قلبه من الإيمان؛ من غاب الإيمان عن قلبه، من كانت في حالة غيبوبة عن الإيمان بربه، وعن التقوى لله عزَّ وجل، وحسن الاستعداد للمثول غداً بين يديه يوم القيامة.
إن أقذر ما يمكن أن يكون من أنواع الكذب هو أن يرتكب الجريمة، ويلصق التهمة بغيره من الأبرياء، وقد غدا هذا نهجاً قائماً في مجتمعاتنا اليوم، وفيما نعانيه اليوم من جرائم تجري في الساحةلم نكن نتخيل أهوالها قبل سنوات قليلة مضت )وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ- الكلام التافه، الكلام الساقط، كلام الضلالة، كلام السفاهة: أعرضوا عنه ترفعوا عن أن يكونوا على ذلك المستوى - مَرُّوا كِرَامًا( هم أكرم من أن يهبطوا إلى مستوى الكلام التافه كلام الضلالة والسفاهة )وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا # وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ( هم مؤمنون، ومن علامات الإيمان )وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا( من علامات الإيمان أنهم يهتمون ويولون خطاب الله عزَّ وجل المتوجه إليهم بأمر أو نهي، موعظة أو تذكير كل الاهتمام )لمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا( في مقابل عباد الرحمن أولئك الذين يلقون السمع للكلام التافه فإذا ذكروا بآيات الله وإذا أمروا بمعروف أو منكر أخذتهم العزة بالإثم، ولم يبالوا بالتذكير بقوارع التنبيه التي في كتاب الله عزَّ وجل، أما عباد الرحمن فليسوا كذلك، إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً، بل تخشع قلوبهم لها ويمتثلون أوامرها ويجتنبون نواهيها وتملأ قلوبهم جدية واهتماما بها فيندفعون للالتزام بمقتضاها )وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا( الذين يقولون متوجهين إلى الله يسألونه عز وجل الذرية الصالحة )رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ( ما تقر به العين ويسر به الفؤاد بالمعيار الإيماني بالذي تسر أن تلقاه غداً يوم القيامة بين يدي الله عزَّ وجل، وهذا يعني أن من صفات عباد الرحمن أن يتوجهوا إلى الله عزَّ وجل أن يرزقهم الذرية الصالحة، وإذا كان مهتماً بالذرية الصالحة فإنه مهتم بتربية هذه الذرية لتغدو صالحة، والتربية تربية الذرية، تربية الأبناء تربية النشء على الصلاح والتقى أحد أهم مبادئها: التعليم، التوجيه إلى الفضائل، التوجه بهؤلاء الأبناء بفلذات الأكباد بقرة الأعين بالذين طالما تشوقت الفتاة والشاب إلى أن يرزقه الله أولئك الصبية الصغار والبنيات الطاهرات يطفن من حوله، ويطوفون من حوله، فيربيهم على الصلاة والدعاء والذكر والتربية القويمة والصلاح والتقى، تقر عينه أن يرى ولده وقد سلك به سبيل الهداية والرشاد، وتوجه به إلى مناهل العلم، مناهل الخير، مناهل الفضيلة هؤلاء عباد الرحمن.
وعباد الشيطان الذين يغتالون قرة أعينكم، الذين يقتلون أبناءنا، الذين يسفكون دماء الذرية الصالحة المجرمون القتلة، الذين آلموا قلوب الأمة الإسلامية، وجرحوا أفئدة كل مسلم: يوم اغتالوا تلك البراعم التي وجهها الآباء لتقر أعينهم بها بسلوك سبيل العلم، سبيل الهداية، سبيل القرآن، سبيل الفقه، سبيل التربية القويمة.
مالهم ومناهل العلم؟ مالهم والمؤسسات التعليمية؟ مالهم وللجامعات وللمدارس؟ مالهم؟ أهذا سبيل الإصلاح؟! لقيت البارحة إمام المسجد الأقصى؛ بل مفتي بيت المقدس وما حوله، محمد الحسين فقال لي: ((كان أولى بهؤلاء وهم على مقربة من المسجد الأقصى أن يحرروا مسجدنا الأقصى إن كانوا يريدون وجه الله))، وقال: ((خطبت خطبة على منبر المسجد الأقصى أمام أعداء الله اليهود - وهو ينعى على فعلة هؤلاء الذين ينشرون الرعب والموت والجريمة والقتل وسفك الدماء بين أبناءنا في مدارسنا في جامعتنا في مشافينا نصرة للحق نصرة للعدالة, نصرة للإصلاح، وكأن سبيل الإصلاح يمر عبر التدمير والقتل، كان أولى بهم – هكذا يقول – أن ينصروا بيت المقدس، أن ينصروا فلسطين، أن يحرروا المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى الطريق إليه أقرب من الطريق إلى تلك الأعمال التي يرتكبونها))، أما آن لتلك العقول أن تستيقظ، أما آن لأولئك البشر أن يرعوَوا؟ أما آن لنا أن نعود إلى سبيل الهداية والرشاد ونكف الأيدي عن إيذاء عباد الله الأبرياء؟! هل الخير والنصر والتأييد لشرع الله وبناء مجتمع الإسلام يمر عبر قتل الإسلام ومؤسسات التربية الإسلامية والتعليم الشرعي؟ ما سمعنا بهذا، لكننا نعلم جيداً أن الصهيونية، وأميركا وأعداء الإسلام عرفوا كيف يغتالون الإسلام باسم الإسلام، كيف يحاربون الإسلام باسم الإسلام، يشوهون الإسلام ويقدمونه إلى عالمهم بالصورة التي تفزع بالصورة التي ترهب، بالصورة التي ترعب...
هذا كلام قد يكون له ما بعده؛ ولكن كلمة الحق يجب أن تقال، كلمة الحق يجب أن تقال لمن يحتضن أولئك المجرمين أن عليه أن ينبذهم ويحاربهم، آن الأوان أن تعودوا إلى الرشد وأن يستيقظ هذا المجتمع ليسلك سبيل الحق والإسلام عبر طريق الهدى والخير لا عبر طريق الشر والإجرام، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " هنيئاً لهم الجنة، أسأل الله ذلك لهم، فهم براعم بريئة هم فتية أووا إلى ذلك الكهف لينهلوا من معين العلم الشرعي، ولكن قضى الله وقدر أن يصطفيهم إليه بالشهادة، قلوب مكلومة.. أمهات تبكي... آباء جرحت قلوبهم، بل الأمة كلها، كنت مع وفود إسلامية كثيرة في غياب لعدة أيام، الكل مشمئز من هذا الذي يرى ويسمع به، ولكن أن يغطى ذلك باسم الإسلام، ذلك من أسوأ ما يرتكبه أعداء الإسلام وعملاؤهم.
)رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ( ولئن كنا قد رجونا ربنا تبارك وتعالى أن تكون لنا قرة أعين فهم قرة أعين، أحياءاً أو شهداء هم قرة أعين لهذه الأمة، ولآبائهم، هم قرة أعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما سلكوا سبيل التربية القويمة والعلم الشرعي )وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا( عباد الرحمن يسألون الله عزَّ وجل أن يرزقهم التقوى، بل أن يصبحوا قدوة للناس في التقى، ذلك لأن الدعوة لله عزَّ وجل لا تكون فقط بالكلام، إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إنما تكون بالعمل، فأن تسلك سبيل التقى خير سبيل لنشر منهج التقى في مجتمعك، أن تسلك سبيل الصدق هو خير سبيل لتغرس معاني الصدق بين أطفالك، أن تسلك سبيل الأمانة هو خير أسلوب لنشر خلق الأمانة في أسرتك، أن تسلك سبيل التقى هو خير سبيل لنشر معاني التقى في حياة أمتك ومجتمعك، أما أن تتكلم عن التقى وأنت بعيد عنه فإن كلامك لن يصل إلا إلى فوهة أذن الناس، لن يؤثر فيهم، لأنه لن يفعل الفعل الذي تأمله أقوى من الكلمة: العمل الذي تريد أن يشيع شذاه وينتشر عطره في الأمة )وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا( ارزقنا التقوى لنصبح بالتزامنا بها قدوة حسنة لكل أبناء أمتنا، إذا أردت للتقى والاستقامة والهدى أن تشيع وتنتشر لا تتحدث عن التقى، ولا تنمق الألفاظ في التقى؛ بل اسلك سبيل التقى فسلوكك أعظم دعوة مؤثرة في مجتمعك.
الذين تمثلت فيهم تلك الصفات كلها: )أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا( سلوك هذا السبيل يتطلب منا صبراً، هذه الصفات التي عرضناها خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي تختتم اليوم... الالتزام بتلك الصفات يتطلب منا صبراً على تحمل التزامها، فالجزاء لا على مجرد الالتزام؛ بل على مصاعب الالتزام )أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا( والغرفة أعلى منازل الجنة، أعلى منازل الجنة هي الغرفة، هكذا قال المفسرون، ولعلها اسم من أسماء الفردوس الأعلى) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا( يستقبلون بالتحية بالإكرام بالسلام، بالترحيب... من قِبل من؟ من قِبل رب العزة جلَّ شأنه، هنيئاً لهم... وهنيئاً لمن مشى وراءهم، وهنيئاً لمن اختطَّ هذا النهج في حياته فصبر عليه حتى بلغ رضوان الله عزَّ وجل فرحب به سبحانه وتعالى في الغرفة بما صبروا )وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا( ثم يقول ربنا تبارك وتعالى مشيراً إلى أهمية الدعاء لكل إنسان حتى وإن كان مقصراً حتى وإن كان مذنباً ) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (
أسأل الله سبحانه أن يفرج عن أمتنا وأن يلهمنا سواء السبيل، وأن يرحم الشهداء، وأن يهدي الضالين قبل فوات الأوان، فسبيل الضلالة مآله الهلاك في نار جهنم، وسبيل الرشاد مآله الغرفة بما صبروا )وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا(
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 02-05-2014


تشغيل

صوتي