مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 11/04/2014

خطبة الدكتور توفيق: صفات عباد الرحمن 1

صفات عباد الرحمن 1
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد، فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم:
)وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا # وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا # وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا # إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا # وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا # وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا # يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا # إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا # وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا # وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا # وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا # وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا # أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا # خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا # قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة، أسوؤكم أخلاقا، المتشدقون المتفيقهون الثرثارون" – أي المتكبرون–
أيها المسلمون: جعل ربنا تبارك وتعالى عنوان أهل الخير والحق في الآيات التي تلوناها )عباد الرحمن(، فالرحمة هي تلك الصفة العظيمة الجليلة التي افتتح ربنا تبارك وتعالى بها خطابه للخلق، وجعلها بداية كل سورة من سور كتابه، وجعلها مفتاحاً لكل خير، مغلاقاً لكل شر، لكي يدرك الإنسان أن باب الرحمة الإلهية هو باب الوصول، وهو لغة الخطاب مع الخلق، وأن ربنا تبارك وتعالى رحيم رحمن، وأن علينا أن نتخلق بخلقه وأن نتصف بهذه الصفة الجليلة، فالراحمون يرحمهم الرحمن، ما صفات هؤلاء الذين ميزهم واصطفاهم فجعلهم خاصة عباده من خلال صفة الرحمة التي اتصف بها ونادى الخلق إليه من خلالها؟ قال: )الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا( أول صفة من صفات أهل الحق، صفات عباد الرحمن: التواضع والسكينة، التطامن للحق والخضوع له، إذ أشدُّ ما يصدّ عن الحق ويبعد عن رحمة الله تبارك وتعالى الكبرياء، إن أعظم وأشد حجاب بينك وبين الحق، وبينك وبين رحمة الله عزَّ وجل هو التكبر، ومظهر التكبر: عدم الانصياع لكلمة الحق، ولا للدليل والبرهان، ولا لمظاهر الحجة البالغة التي أيد الله عزَّ وجل بها دينه، وأيد بها شرعه، وأيد بها معالم الحق في هذا الدين العظيم، إن أبرز صفة يمكن أن تجتذب الإنسان إلى الله عزَّوجل هي تطامنه للحق، إصغاؤه لندائه، اعترافه به والتزامه بحدوده. أما المستكبر فلن يصل إلى الحق، ولن يبلغ الحقيقة، ولن يصل إلى رحمة الله. إن الذي حرم الشيطان من رحمة الله عزَّ وجل إنما هو الكبر، وإن الذي جعل ذنب آدم عليه الصلاة والسلام يتبدد وينمحي، ويقابل بالعفو والمغفرة إنما هو التطامن للحق والتواضع لله عزَّ وجل والإقرار بالذنب له إذ قال )ربّ إنّي ظلمت نفسي( اعترف بالذنب وأخضع نفسه لله عزَّ وجل فتجاوز الله سبحانه وتعالى عنه )الّذين يمشون على الأرض هونًا( ثم إن من صفاتهم أنهم لا يقابلون الجاهل بجهالته إذا فما الفرق بين الفريقين ؟! إذا كنت أقابل السيئ بمثل سلوكه فقد تساوينا، ينبغي أن أقابل السيئ بالصفة التي ميزني الله تعالى بها، ومثل هذه الحالة يمكن أن تقتضي مني الإعراض عن كلمة السفاهة والبذاءة وغير ذلك )وإذا خاطبهم الْجاهلونَ( بجهالتهم، بالشتم أو البذاءة أو بالسفاهة، وغيرها مما لا يليق بالإنسان المسلم أن يتصف به من أمور، قابلوا ذلك بالإعراض )سلام عليكم لا نبتغي الْجاهلين( )وإِذا خاطَبهم الجاهلون قالوا سلامًا( أعرضوا، ولم يقابلوا السفاهة بمثلها ولا الإساءة بمثلها؛ بل قابلوا ذلك كله بالإعراض عن مقابلة الشيء بمثله )والّذين يبيتون لربّهم سجَّدا وقِياما( العبد الذي عرف ربه أحبه، وإذا أحبه ذكره، وإذا ذكره اختار خير الساعات لمناجاته، وأجمل وأعظم ساعات مناجات المولى سبحانه وتعالى هي ساعات الخلوة إليه في هدأت الليل في الأسحار )وبالأسحار هم يستغفرونَ( )والَّذين يبيتون لربّهم سجّدا وقياما( تتصل قلوبهم وتسموا في مناجاتها مع ربهم سبحانه وتعالى مع الله جلَّ شأنه، يناجون الله سبحانه ويضرعون إليه، يبسطون أكف الرجاء، أكف التوبة والإنابة، يبسطون أكف السؤال "إذا سألت فاسأل الله" لا يبسط كفه بالسؤال إلى عبد، وإنما يبسط كفه بالسؤال إلى رب العباد، إلى الله عزَّ وجل، وحاشى للإنسان المؤمن أن يبسط كفه إلى عبدٍ يرجوه النفع أو يطمع فيه في دفع ضر، الأمر كله بيد الله، وإذا كان الأمر كله بيد الله، فلا يمدنَّ يده بالسؤال، ولا بالاستغاثة ولا بالاستعانة إلا بالله عزَّ وجل، "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" وخير ساعات المناجاة والسؤال والتضرع إلى الله هي ساعة السحر، ساعة لايرد فيها السؤال، والذين امتلأت قلوبهم خشية من الله ومخافة من عواقب ذنوبهم، يرون أنفسهم مقصرين، ومن رأى نفسه مقصراً هرع إلى الرب الكريم، يرجوه المغفرة ويرجوه الرحمة، قال ربنا تبارك وتعالى )ففرّوا إلى اللّه( تفر من عذابه إلى أعتابه، تفر من ذنوبك إلى مغفرته، تفر من تقصيرك إلى عفوه، وهل لك من مفر إلا إليه؟ وهل لك من باب تلجأ إليه إلا على أعتابه )ففرّوا إلى اللَّه إنّي لَكم مّنه نذير مّبين( ينذرنا من ذاته، ويفتح لنا باب رحمته )ففرُّوا إلى اللّه إنّي لكم مّنه نذيرٌ مّبينٌ(، )والّذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غرامًا( ملازماً شديداً مؤلماً، ولا مفرَّ لنا من ذلك العذاب إلا أن نلتجئ إلى أعتاب رحمتك، إلا أن نلتجئ إلى باب عفوك وصفحك )إنّها ساءت مستقرًّا ومقامًا( وهنا لا بد أن يتوقف الإنسان وِقفة تأمل، وينظر في حاله، اليوم أيها الإخوة عمل ولا حساب، واليوم فرصتك أما الغد ففي علم الله، اليوم لايزال مُلكاً لك، لكن الغد ليس ملكك، إذا أتيحت لنا الفرصة فلا نضيعنها، يوشك أن تنتهي الفرص. والله تعالى أطلعك على ساعة وجودك وساعة ماضيك، ولكن مستقبلك قد أخفاه عنك، لتكون دائماً مستعداً للمثول بين يديه، للرحيل إليه، للأجل، للساعة التي تنتهي فيها الفرص ويحين فيها موقف الحساب، علينا أيها المسلمون أن نحاسب أنفسنا أن نعود إلى ذواتنا، وننظر في سلوكنا وتصرفاتنا، فاليوم عمل ولا تزال الفرصة متاحة، وغداً حساب ولا عمل؛ لذلك أسأل الله أن يحيي قلبي وقلوبكم، ويرزقنا حسن الإقبال إليه، وصدق الرجوع والتوبة والإنابة إليه )والّذين إذا أَنفقوا لم يسرِفوا ولم يقتروا وَكانَ بين ذلك قوامًا( الوسطية والاعتدال، منهج الإنسان المسلم في حياته الوسطية والاعتدال هو منهج حياة الإنسان المسلم، ولئن أرمز ربنا تبارك وتعالى بمسألة الانفاق؛ فلأنها واضحة في نتيجتها، فمن كان لديه شيء من المال فبدده وأنفقه دون تقدير لمستقبله – كمن كان لديه من المال ما يكفي لشهر فأنفقه في أسبوع جاع واحتاج بقية ذلك الشهر – والعمر كذلك، والشجاعة كذلك، والاجتهاد في الدراسة كذلك، إذا أنا بددت الفرص التي بين يدي وغفلت عنها حتى إذا صار الامتحان قاب قوسين أو أدنى اندفعت إلى الدراسة لن أفلح ولن أستفيد. فرطت، بددت الفرصة المتاحة بين يدي فيما لا فائدة فيه، وكذلك إذا أجهدتُ نفسي، وأرهقت ذاتي فوق ما أُطيق من عمل، سوف يعود الأمر علي بالضرر بدل أن يعود علي بالنفع، وكما قال النبي r: "إنَّ المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" المسرع على راحلته أكثر مما تتحمل راحلته لن يبلغ القصد؛ لأن الراحلة ستموت في منتصف الطريق، وراحلتك جسدك، راحلتك تلك الإمكانات التي متعك الله عزَّ وجل بها، راحلتك مالك، راحلتك جسدك، راحلتك عمرك، فإن بددت هذا العمر فيما لا فائدة فيه خسرته، وجاءك الأجل وأنت قد ضيعت الفرصة كلها، وإن أرهقت نفسك بما لا تطيق، كذلك سوف يؤدي ذلك إلى هلاك نفسك، فأنت ارفق بنفسك، "إن لربك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، فأعط كل حق حقه" الاعتدال والوسطية في كل شؤونك، جعل إرمازاً لذلك المال، لديك من المال ما أعطاكه الله عزَّ وجل أنفقه باعتدال، أنفقه وفق حاجاتك، أنفقه وفق متطلباتك، لا تبدد فإن زاد عندك فباب الخير واسع )ويسأَلونك ماذا ينفقون قل العفو( باب الخير واسع ولكنَّ علينا أن نكون معتدلين في الانفاق )والّذين إِذا أَنفقوا لم يسرِفوا( لم يتجاوزوا قدر الحاجة في نفقاتهم )ولم يقتروا( لم يضنوا على أنفسهم في حاجاتهم ضمن ما أعطاهم الله عزَّ وجل من إمكانات وهذا الأمر إذا صدق على المال، صدق على كل شيء، الشجاعة إذا زادت عن حدها صارت تهوراً، وإن نقصت صارت جبناً وخوراً، فأنت مطلوب منك أن تحكم العقل في تلك الجرأة التي أودعها الله عزَّ وجل فيك فتستخدمها فيما هو خير، ولا تجعلها وسيلة تهور ولا وسيلة مباهاة واستعلاء على الخلق، ثم قال: )والّذين لا يدعون مع اللَّه إلها آخر( يضيق المقام عن أن نعطي الموضوع كل بيانه، ولكني سأتوقف عند هذه النقطة: لماذا بدأ ربنا تبارك وتعالى في صفات عباد الرحمن بـ )الّذين يمشون على الأرض هونًا(، ولم يبدأ بـ )والّذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر( مع أن هذا هو الأصل، فمن لم تصح عقيدته لم يصح منه أي عمل آخر )وَالَّذِينَ كَفرُوا أعمالُهم كسراب بِقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتّى إِذا جاءه لم يجدْه شيْئا ووجد اللّه عنده فوفّاه حسابه واللّه سريع الحساب( من فسدت عقيدته لا فائدة من عمله الصالح، فلماذا بدأ بالتواضع ولم يبدأ بالتوحيد؟ لأن أعظم حجاب بينك وبين الحقيقة الاعتقادية أن تذعن لها هو الكبرياء، هو الاستكبار على الحق
لتتمة الخطبة يرجى تحميل الملف المرفق


تشغيل

صوتي