مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 14/03/2014

خطبة الدكتور توفيق: بماذا سنخرج بعد الثلاث سنوات؟!


بماذا سنخرج بعد الثلاث سنوات؟!
د. محمد توفيق رمضان البوطي
يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ويقول جلَّ شأنه: )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ويقول سبحانه: )ادع إلِى سبيلِ ربِّك بالحكمة والمَوعظة الْحسنة وجادلْهُم بِالَّتِي هِي أحسن إِنَّ ربَّك هو أعلم بِمَن ضلّ عن سبيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمهْتَدِينَ( ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" وروى مسلم بإسناده عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنهصلى الله عليه وسلم، ثم سأل فأعرض عنه، ثم سأل في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" وقال صلى الله عليه وسلم "من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة الجاهلية" وقال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل تحت راية عُميَّة فمات، مات ميتة جاهلية"
أيها المسلمون: ثلاث سنوات مضت، ثلاث سنوات عجاف مريرة قاسية تركت البلاد دمارا، وخلفت الأمة أشلاء ودماءً، أصابنا التشريد والكراهية والضياع، وسادت العلاقات أحقادٌ وكراهية، العدو يرتع في فلسطين، والبعض ينادي بالجهاد بين الجار وجاره، والأخ وأخيه، أقول: لعل المرحلة التاريخية التي نمر بها، هي الأخطر في تاريخ هذه الأمة، وإن الوضع الذي تعاني منه الدعوة الإسلامية اليوم هو الأصعب على امتداد الزمن، وإن صورة الإسلام قد تعرضت في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا لإساءة وتشويه لم يسبق أن تعرضت لمثله من قبل، ولئن تم تسويق هذا الذي يجري تحت اسم الربيع أو الإصلاح أو الحرية أو غير ذلك من التسميات، ووصفت أنشطة الموغلين في هذه الحالة بالجهاد؛ فإن على كل غيور على هذه الأمة ودين هذه الأمة وسلامة أبنائها وأرضها أن يكون أكثر يقظة ووعياً لما يجري في الساحة، وأن يضعه في موضعه الصحيح. ثلاث سنوات تقتضي منا مراجعة للذات، وعندما أقول منا؛ أعني جميع أطياف هذا الوطن من موالين ومعارضين، من ولاة ورعية، في كل موقع من مواقع هذه الأمة، ولكل فئة من فئاتها. علينا أن نراجع ذاتنا وأن نعيد فهم ودراسة هذا الواقع الذي نعاني منه.
أيها المسلمون: لقد صدرت فتاوى سمت ما تعرضت له بلادنا جهاداً، وأقول: لئن كانت الرصاصة تقتل رجلاً والقذيفة تهدم بناءً، فإن الفتوى الضالة تدمر وطناً وتقتل أمة، عودوا إلى أولئك الذين أصدروا تلك الفتاوى أين هم؟ وما وضعهم؟ البعض منهم يتمادى إلى هذه الساعة في إصدار تلك الفتاوى إمعاناً منه في تسويغ سفك دماء الناس، وإثارة الوقيعة بينهم. عشنا في هذا الوطن ألواناً وأطيافاً شتى، قبِل بعضنا بعضاً وتعايشنا على تباين الألوان واختلاف الوجهات، تقبل البعض منا الآخر، مع كوننا نؤمن بأنه مخطئ ويؤمن هو بنظره أنا مخطئون، ولكن مع ذلك عشنا في ظل هذه الأرض قبل كلٌ من الآخر وعاش معه راضياً؛ بل ومتعاوناً. وأحياء دمشق مثالٌ على ذلك، فيها أطياف شتى، جيران لبعضهم يعيشون مع بعضهم. من الذي أثار هذه المشكلة؛ باسم الحرية باسم الإصلاح وباسم الجهاد أيضاً، وكم يتساءل المرء من هم الذين نادوا بهذا الجهاد؟ وخلف من يسيرون؟ أريد منكم الآن أن تعودوا بالذاكرة إلى أرض الواقع، من هم؟ من هو أول من تحرك في ساحة المرجة في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، وهل له صلة بالإسلام؟ ومن الذين حركوا الفتنة في جامع بني أمية، وكبروا؟ عودوا فاسألوا وراجعوا وتأملوا. إن الذين قادوا المظاهرة وأثاروها في جامع بني أمية ليسوا مسلمين، واعترف كبيرهم بذلك، ولا أريد أن ألوث هذا المنبر باسمه، اعترف أن ابنه هو الذي أثار تلك المظاهرة، هل خدمة للإسلام ؟! أم نهوضاً بحرية هذا الوطن؟ أم حرصاً على سلامة هذه الأمة؟ من هو الذي رُشح ليكون زعيماً لهم؟! إنه رجلٌ تخلى عن وطنه وطرد من التعليم لأنه مرتد شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا علاقة له بهذا الوطن ولا علاقة له بقيمه ولا بمبادئه، ولا يعرف هذا الوطن أصلاً، أهؤلاء الذين يقودون مسيرتهم؟ ينهض بهذا الحراك أناس لا أدري هل أتهمهم بالغفلة أم بالتغافل أم بالارتباط بمصالح معينة؟ تركتهم لله، والله هو الولي الذي بين يديه يجتمع الخصوم، ينهضون به ليسوغوا هذه الفتنة، ويقذفوا بأبنائنا وشبابنا في أتون يحرقهم فما بقي بيت إلا وجرح، وما بقيت أسرة إلا وفقدت حبيباً لها، بسبب أولئك الذين هربوا إلى خارج البلاد وتركوا البلاد تشتعل، ولا يزالون يشعلون النار لكي يحرقوا أبناء هذا الوطن، أين هم؟ أفي الفنادق، ستنبذهم الفنادق، وتنبذهم الأرض؛ لأن دماء هذه الأمة في رقابهم، من أي اتجاه كانوا. خسرنا الكثير من الشباب وهؤلاء كلهم أبناؤنا، أبناء هذا الوطن، أبناء جيراننا إنهم أبناؤنا الذين خسرناهم في فتنة عمياء قذرة أودت بأبنائنا وبأسرنا وبوطننا وببيوتنا. أين هم الآمنون الذين كنا نجد أُنسنا في زياراتنا في الغوطة، أين هم؟ شردتهم هذه الفتنة العمياء، حمل أهل الفتنة شعار( الله أكبر) لكي يجعلوا الإسلام مسؤولاً عن ذلك كله. شعارات دينية لمضمون يخدم من يعادي هذه الأمة ويعادي قيمها، غطاء تغطى به فتنة عمياء لها ما بعدها، إننا لنرجو أن تكون الفتنة قد آذنت بالأفول ووصلت إلى نهاياتها. ولكن أيها المسلمون: الجرح عميق، والأسى يقطع الأكباد، وحتى تستعيد الأمة عافيتها تحتاج إلى الكثير؛ ولكن أن تستيقظ الأمة متأخرة خير لها في أن تبقى في سُبات، وتمضي في هذه الغواية. أقول هذا الكلام لكل أطياف هذه الأمة، ما ينبغي أن نجعل الحقد حكماً فيما بيننا، فنحن قدَرُنا أن نعيش مع بعضنا وكنا سعداء، ولئن كانت هناك أخطاء، فإن الخطأ يعالج من قبل أهله، ولا تأتي المعالجة من قبل أعدائهم، الدواء لا يستورد من العدو، فالعدو لا يريد مداواتنا، انقذف الكثير منهم إلى عدو هذه الأمة يستجير به .. منها، ويحتكم إليه لخصومة بينه وبين أخيه، وأنتم أدرى بما يجري في ساحة مؤلمة مؤسفة. ديننا الذي سماه ربنا تبارك وتعالى رحمة للعالمين )وما أرسلْناك إِلَّا رحْمَةً لِّلْعالمِينَ( أيتحول إلى دين يأمر بقتل الأبرياء؟ وسفك الدماء؟ انظروا كيف يتبرأ كل منهم من الآخر، وكيف يتحاربون وكانوا قد دخلوا بهوية واحدة، هوية الربيع، هوية الحرية، هوية الإصلاح، ثم بدؤوا يختصمون علام؟ وفيم؟ ومن الذي أعطاهم ومولهم وقواهم؟ لقد غبت عنكم الأسبوع الماضي، رأيت علماء العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه يقررون إعادة النظر في كل الذي جرى، لأن الذي جرى لم يكن قراراً علمياً، ولا قراراً إسلامياً، وإنما كان خطيئة بحق هذه الأمة، كلهم تكلموا بلغة واحدة، اجتمع أكثر من مئتين وخمسين عالماً من شتى أرجاء الكرة الأرضية ليقولوا: لنعد إلى السلم، لنعد إلى السلام، لنعد إلى العيش المشترك، يا لله .. صمت طويل والآن بعد أن قتلتم أمة ودمرتم وطناً! أو أوطاناً! تدعون إلى السلم؟ الخطأ محسوب على صاحبه أياً كان فليكن. وعلى كل إنسان أن يراجع خطأه، وأن يتوب إلى الله ويستغفر وأمره إلى الله، لكنا كأمة ننظر إلى من أخطأ بأنه أخطأ، وأن يجب أن يحاسب، وأن ينال جزاءه، لا بالنسبة لي ولك، ولكن بالنسبة لحق الله وحق الأمة وحق البشرية؛ بل لحق هذا الدين الذي شوه. باسم الدين قُتِل أطفال، قتل أبرياء، دمرت مساجد، دمرت مشافي، دمرت جسور، قصفت خطوط إمداد النفط والغاز، لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، هذا الذي قاله الله عزَّ وجل )ولاَ تُفسدُواْ فِي الأَرْضِ بعدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ( الذين يعيثون في الأرض فساداً صنفهم الله سبحانه وتعالى فيمن يحاربون الله ورسوله، وقدر لهم جزاءً لم يقدره لأي فئة من الناس، قد أقبل الكافر في وطني، ولكن المفسد في الأرض جزاؤه ورد في كتاب الله كأشد جزاء ورد في كتاب الله: جزاؤهم أن يُقتَّلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفَوا من الأرض، بهذا الوعيد توعدهم. عدا ما أعد لهم في الآخرة. ألا نحتاج إلى مراجعة لأنفسنا ولمواطئ أقدامنا؟ على كل من أخطأ أن يراجع نفسه، بل على كل منا أن نراجع أنفسنا ونتبصر مواطئ أقدامنا، لا نخدمنَّ العدو بقتل أنفسنا )ولاَ تقتلواْ أَنفسكمْ( هكذا يقول لنا ربنا تبارك وتعالى.
أمر عجيب أن ينسب إلى الإسلام ما كان قد حرمه الإسلام، وأن يحارب الإسلام باسم الإسلام، إن الذي نعرفه في أصول قتالنا لألد أعدائنا في الحرب المعلنة الرسمية التي يقودها ولي الأمر، هو ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأةً – من الأعداء - ولا تقطعوا شجرة ولا تعقروا شاةً إلا لمأكلة " بهذا أمرنا، وإلى هذا وُجِّهنا، هذا إذا كان التعامل مع عدوٍ لنا؛ فكيف مع مسلم هو منا ؟! يصلي معنا في المسجد لكنه يخالفنا في بعض ما يمكن أن يكون من الأمور الاجتهادية، لأنه يخالف يقتله، يحكم عليه بالكفر، يحكم عليه بالردة، ثم يمارس دور ولي الأمر وليس له من الأمر شيء.
ديننا أيها المسلمون يقوم على المحبة، ويقوم على التعايش، يقوم على )وَلَا تُجادلوا أَهل الكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحسنُ ( )ادْع إِلِى سبيلِ ربِّكَ بالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هيَ أَحْسن ( ربنا تبارك وتعالى رسم لنا معالم الدعوة "بشروا ولا تنفروا " ما يمارس اليوم هو نفروا ولا تبشروا.
علينا بعد ثلاث سنوات عجاف أن نعيد النظر، ونعيد مراجعة أنفسنا، وندرس مواطئ أقدامنا، ونبحث عن مسلك نصلح به الأمر )لا خيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهمْ إِلاَّ منْ أَمَرَ بصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ( والصلح خير، أن تصطلح الأمة مع ذاتها، أن تصطلح الأمة مع قضاياها، أن تصطلح الأمة مع الأمة، وأن تعرف عدوها، وأن تعامل عدوها بما ينبغي، وأن تعامل أخاها وشريكها في هذا الوطن في هذه الأمة في هذا المجتمع، على النحو الصحيح كما أمر الله عزَّ وجل ورسوله.
أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشاد ، وأن يوفقنا لعود حميد لدينه ، وأن يعيد لهذه الأمة أمنها وأمانها.
خطبة الجمعة: 14-3-2014


تشغيل

صوتي