مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 24/01/2014

خطبة الدكتور توفيق: دعوة إلى التوبة


دعوة إلى التوبة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ويقول سبحانه:
)وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ # هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ # فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ # وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ( ويقول سبحانه: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( روى الحاكم في المستدرك بإسناده على شرط البخاري، عن شداد بن أوس عن النبي قال: «الكيس من دان نفسه –أي العاقل من حاسب نفسه- وعمل لما بعد الموت، والعاجز –أي الأحمق- من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله»، ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا» روى الشيخان عن أبي سعيد الخُدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسع وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب –أي عابد– فأتاه فقال إنه قتل تسع وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثمّ سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا إن بها أناس يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة إنه جاء مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك بصورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضه ملائكة الرحمة»
أيها المسلمون أيها المؤمنون: جدير بكل إنسان بين الفينة والأخرى أن يرجع إلى نفسه، وأن يتحسس مواطئ أقدامه، وأن ينظر في مدى سلامة سيره في حياته واستقامة سلوكه وتصرفاته، ولاسيما إذا كان مسلماً يؤمن بالموقف غداً بين يدي الله، ويضع في حسبانه أن الموت لا مفر منه، وهذا أمر لا ينكره عاقل، وأن الموت بوابة إلى الموقف بين يدي الله عزَّ وجل يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية، ويومئذٍ تتجلى القاعدة الربانية، أو القانون الرباني )فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ # وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(، وأن على المرء أن ينظر في حاله إذ الموقف ليس بين يدي بشر، ولا بين يدي من يمكن أن يخدع، الموقف بين يدي قيوم السموات والأرض، بين يدي علام الغيوب، بين يدي من أرواحنا في قبضته، ومصائرنا تحت سلطانه. لذلك علينا أن نغسل قلوبنا من أوطار المواقف الشخصية؛ الأحقاد، المكابرة، العناد، وأن نتحرر من ردود الفعل، وأن تكون تصرفاتنا ومواقفنا مبنية على رؤية شرعية، تضع في حسبانها المسؤولية بين يدي الله وحده، بين يدي الله عزَّ وجل علام الغيوب، قيوم السموات والأرض، إن المسؤولية ليست بين يدي إنسان إنما هي بين يدي الله رب الإنسان رب السموات والأرض رب الملوك والسلاطين، رب السموات والأرض الذي إليه مصيرنا وبيده أمرنا ، المآل إليه والحساب بين يديه) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ( )الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(، التوبة إلى الله عزَّ وجل أبوابها مفتوحة )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا(، والإنسان بين الفينة والأخرى يمكن إذا كان عاقلاً أن يراجع نفسه، ومهما كان خطؤك جسيماً فإن رحمة الله إذا صدقت في العودة إليه أوسع، والمثال الذي يقوله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الشيخان، والذي قرأت لكم رواية له، مثال ينبغي أن نتأمله، وأن نستخرج منه الفوائد والعبر ، وأن نستفيد منه فوائد عظيمة.
أيها المسلمون: هذا الرجل المجرم القاتل الذي قتل تسعة وتسعين، الذي ورد ذكره في الحديث الذي أوردته، استيقظ بعد ذلك كله قلبه، وراجع نفسه ثمَّ سأل عن مخرج وعن إمكان أن يعود إلى الله فيستغفره، دلَّه الناس على عابد يتعبد في كهف، فلجأ إليه: هل لي من توبة؟ فما كان من الرجل إلا أن صده.. أيُّ توبة هذه، فلما يأّسه أتم به المائة، هذا الرجل الأحمق الذي صدَّ عن سبيل الله أهلك نفسه وصدَّ الرجل عن باب الله، وكم من الجهلة اليوم يقفون سداً بين الإنسان وربه بجهلهم، فيهلكون أنفسهم ويهلكون الأمة معهم، إنسان أخطأ وقد يخطئ، وأراد أن يتوب لا ينبغي أن تكون مرجعياتنا أصناف من الجهلة والمتعصبين والمتطرفين ممن انغلقت أذهانهم وسدت في وجوههم أبواب الخير واستساغوا الشر وانتهجوا منهج العصبية، الطريق إلى الله سالكة، وليس لأحد من الناس أن يحول بين الناس وبين ربه عزَّ وجل، والجهلة وحدهم هم الذين يمكن أن يجعلوا من أنفسهم بوابة تصد عن سبيل الله، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بشروا ولا تنفروا» هؤلاء يقولون نفروا ولا تبشروا، النبي صلى الله عليه وسلم يقول «يسروا ولا تعسروا» وهؤلاء يقولون عسروا ولا تيسروا، ثم إن الرجل هداه الله عزَّ وجل إلى رجل عالم، فسأله هل لي من توبة؟ قال له: ومن يمنعك؟ ومن يحول بينه وبين التوبة! إذاً باب التوبة مفتوح ومراجعة النفس ضرورية وعلى المرء أن يتوب؛ لكن لاحظوا أيها المسلمون ذلك الرجل العالم العاقل أدرك أن هذا الإنسان ما بلغ به الإجرام ذلك المبلغ إلا بسبب المحيط والبيئة والأصدقاء الذين كان يعاشرهم، وكان يستقي منهم سلوكه وتصرفاته، من أي البلاد أنت؟ أنا من بلد كذا، فقال له: دع أرض قومك فإنها أرض سوء، دع أولئك الذين حرفوك عن جادة الرشاد، وزجوا بك في حمئة الإجرام في حمأة الانحراف، أنت إنسان أنت عاقل أنت لك عواطف أنت عندك وجدان عندك صفات طيبة، هؤلاء ... تلك الصفات الطيبة، وهذه البيئة السيئة هذا المحيط الخطير الذي إذا مشى فيه الإنسان أورثته روح الإجرام والقتل، دع هؤلاء، دع أرض قومك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض بني فلان، فإن بها قوم يعبدون الله، اختيار الصحبة الصالحة البعيدة عن مسالك القتل والتدمير والإجرام، تلك الفئة الصالحة البناءة الرقيقة التي تسعى إلى نشر الخير لا إلى نشر الشر، إلى هداية البشرية لا إلى تدميرها، إلى الرحمة لا إلى الشدة والعنف والقسوة، اذهب بهم إلى أرض بني فلان فإن بها قوم يعبدون الله، قلوب رقيقة ومشاعر عذبة، شعور بالمسؤولية، صلة بالله عزَّ وجل.
هذه النقطة الثانية، لابد إذا أردت التوبة وإذا أردت الحياة المستقيمة أن تختار لنفسك البيئة الصالحة، والأصدقاء الصالحين، والصحبة الطيبة، دع الصحبة التي يمكن أن تكون مزلق قدم إلى الانحراف أو الإجرام أو الشذوذ أو إلى سوء الخلق أياً كانت طبيعة سوء الخلق.
النقطة الأخيرة، أرأيتم إلى هذا الرجل لو أنه سمع النصيحة من هذا الرجل العالم قال إذاً سوف أتوب –إن شاء الله شي شهر ثاني أو شي يوم آخر– ماذا كان مصيره، ما أن سمع تلك الكلمة حتى هُرع إلى أرض التوبة أرض الصالحين، هرع إلى طريق الاستقامة لم يؤجل ولم يسوف، وكم أهلك التسويف والتأجيل والأمل الكاذب، فما أن انتصف به الطريق حتى حضره الموت، إنه أقبل على الله عزَّ وجل وتنازعت في شأنه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من صورة هذا الرجل وفيما جرى له رمزاً تُستفاد منه المعاني، ملائكة الرحمة نظرت إليه أنه مقبل على الله تائباً، وملائكة العذاب نظرت إليه أنه لم يسجد لله قط، وحياته مفعمة بالجرائم، فاحتكموا إلى من حكم بينهم، قال: إذا رأيتموه أقرب إلى أرض التوبة فهو لها، وإن رأيتموه أقرب إلى أرض معصيته فهو لها، بمعنى أن عليك أن تسرع وتبادر قبل أن تفوتك الفرصة، صحح المسار.. صحح التفكير.. قوم الاعوجاج، إذ يوشك أن تنتهي أيامك والدقائق والثواني، يوشك أن تنتهي الحياة في لحظة لا تستطيع أن تستدرك وتقدر النتائج، راجع نفسك؛ فإذا رأيت الحق فتشبث به ولا تؤجل، إذ يوشك أن تنتهي حياتك وأنت مسوف تنتظر.
وأخيراً .. إن رحمتي سبقت غضبي، هكذا في الحديث القدسي، لا تسدوا الطريق في وجوه الناس المقبلين على الله بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا.
أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشاد، والحكمة والحق والهدى، إنه سميع مجيب.
خطبة الجمعة 24- 1- 2014


تشغيل

صوتي