مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/11/2013

خطبة الدكتور توفيق: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ


)كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ# وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(
ويقول سبحانه بعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: )لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ #إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ # فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ # الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(
ويقول جلَّ شأنه: )وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى# قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا # قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى(
روى الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ "
وَيُرْوَى -الراوي الترمذي- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا "
روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: "يُجَاءُ بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ –شاة ضعيفة صغيرة- فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَعْطَيْتُكَ وَخَوَّلْتُكَ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ فَيَقُولُ يَا رَبِّ: جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ فَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ، فَيَقُولُ لَهُ : أَرِنِي مَا قَدَّمْتَ ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ: جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ فَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ كُلِّهِ ، فَإِذَا عَبْدٌ لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا فَيُمْضَى بِهِ إِلَى النَّارِ "
أيها المسلمون:
من شأن العاقل أن يعود إلى نفسه بين الفينة والأخرى في ساعة يراجع فيها نفسه، وينظر فيما كان قد مضى من مرحلة حياته هل أصاب أم أخطأ، فإن أصاب رسخ في طريق الصواب خطاه وتابع مسيرة الخير في حياته، وإن أخطأ فشأن العاقل أن يعود عن خطئه، وأن يصحح ما كان ما وقع فيه من الخطأ. هذا شأن كل إنسان عاقل، لاسيما وأن الخطأ يعود عليه بالضرر إن كان في التجارة بالخسارة، وإن كان أي شأن من شؤون الحياة فالخطأ يعود عليه بالضرر.
إن مراجعة الذات والعودة عن الخطأ عقل وحكمة وفهم وتقدم في مجال الوصول إلى ما هو أفضل، والتمادي في الخطأ حماقة وغباء وانتحار من نوع غبيٍ ما مثله أبداً.
أيها المسلمون: ربنا تبارك وتعالى امتن على قريش كلها بنعمتين، في إطار دعوته لهم أن يسروا في طريق الهداية: )لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ #إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ( هذه نعمة بحد ذاتها ذكرها مستقلة، ثم امتن عليهم بنعمتين، يا أهل سوريا تذكروا هاتين النعمتين )فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ # الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ( نعمة الكفاية في الطعام والشراب والرزق، ونعمة الأمن التي تميز بها هذا البلد والتي غدت سمة عرفت في العالم كله أن سوريا بلد الأمان بلد الطمأنينة، يسافر المرء وحده من مدينة إلى أخرى في منتصف الليل فيصل إلى الأخرى عند الفجر فلا يرى في طريقه إلا الأمان والطمأنينة، تخرج المرأة في الصباح الباكر لتشتري خبزها، وتعود في الليل إلى بيتها من مناسبات الأفراح أو غيرها فلا تجد من يعترض طريقها بسوء، وإني لأعلم أن بلاداً أخرى من البلاد العربية تتميز بنوع قداسة أو بالقداسة لا تأمن المرأة أن تخرج أمتاراً إلى خارج بيتها، نعمة الأمن ما مثلها نعمة.
)أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ( على الرغم أننا لا ندعي أننا كنا مرفهين وإن كانت فئات كثيرة من أبناء هذا البلد كانوا على درجة من الرفاهية، إلا أننا لا ينبغي أن نكفر نعمة الله عز وجل، إلى أي حال وصلنا؟!
إلى أي سوء وفي أي درك سقطنا، ثلاثة وثلاثون شهراً أمضيناها ونحن نبحث عن المفقود، كنا قد قلنا في بداية الأمر إنه نفق مظلم لا نعرف نهايته، تُرى من الذي نصب هذا لنفق لنا لنسلكه؟ ومن أجل ماذا ترى نصبت لنا هذه الأنفاق المظلمة العاتمة؟ المسألة ينبغي أن نراجع فيها أنفسنا جميعاً موالين ومعارضين ولاة ورعية، أن نعود إلى أنفسنا: لماذا أُصِبنا بما أصبنا به فصرنا قصة العالم كله؟ وصرنا حديث المجالس وصرنا الأزمة المستعصية في العالم، لماذا؟ من الذي رسم لنا خارطة الطريق المعوجة حتى أبلغنا هذه الحالة المؤسفة، المؤلمة لكل ذي قلب أو ضمير؟ ألا ينبغي أن نراجع أنفسنا! دعوني من إلقاء التبعة على الآخر، كل منا يتحمل التبعة.
أيها المسلمون: نحن في هذا الوطن جسد، فما ينبغي أن تعيب اليد اليمنى على اليد اليسرى، وما ينبغي أن يعيب الظهر على البطن؛ لأن الضرر الذي ينال هذا الجسم يتألم هذا الجسم كله منه، والخطأ الذي يرتكبه عضو يعود على الجسد كله بالضرر، والذين يريدون أن يجزئوا المسؤولية يخطئون في حق أنفسهم، ألا ينبغي أن نراجع أنفسنا في السبب؟ في الممارسة؟ في النتائج؟ أن نحلل هذه الحالة التي نحن فيها: لماذا انقذفنا إلى هذا الواقع المؤلم؟ كيف تعاملنا مع هذا الواقع المؤلم؟ ما النتائج التي وصلنا إليها والتي يتوقع أن نصل إليها؟
...الحق على الدولة... والدولة تقول الحق على المعارضة، دعونا من إلقاء التبعة على الآخرين )كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ( كلٌ منا يتحمل مسؤوليته، وكلٌ منا عليه أن يعود إلى نفسه فيراجع نفسه. وكلٌ منا مسؤول )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ( المسؤولية ليست في المحكمة ولا في المجالس الدولية، المسؤولية بين يدي الله عزَّ وجل الذي أطعمنا من جوع وآمننا من خوف، صرنا كالقرية التي كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، جحدت نعمة الله عزَّ وجل فأسامها الله تعالى عواقب هذا الكفران.
كلنا ينبغي أن يتحمل المسؤولية، وينبغي أن نصحح المسار من حيث هو، الفرد في بيته والراعي في أسرته، الأب في أولاده وبناته، المتعامل في المعاملات المالية والعلاقات الاجتماعية. ضعوا الأمور في ميزان الخطأ والصواب، ولنعد فلنراجع أنفسنا، وأولكم ينبغي أن أراجع أنا نفسي فأصحح مساري واستغفر الله من خطئي وأتوب إلى ربي. فإن اليوم عمل ولا حساب، ولكن غداً حساب ولا عمل )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ( هنا قد نجني نتائج فنندم وقد لا نندم. لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة غداً إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجل وسألك عن أخطاء في حق هذا الوطن وفي حق هذه الأمة. هل ستقول يا رب لماذا لا تسأل الدولة؟ أهذا جوابك؟! هل سوف يقول لك الله عزَّ وجل يعني أهذا جوابك المفحم؟ فكر فيما تقول. فأنت يجب أن تتحمل مسؤولية خطئك، وكلٌ منا يجب أن يتحمل مسؤولية خطئه فيصحح مساره. أجل ينبغي أن نتوب.
اليوم تثار صيحات: الدولة تحالفت مع الجهة الفلانية، تحالفت المعارضة مع الجهة الفلانية. دعونا من هذه الثرثرة، النبي r في يوم صلح الحديبية، وقع معاهدة صلح أثارت استغراب الصحابة، بل أثارت دهشتهم، لأنه فيما يبدو أنه قدم تنازلات؛ إنهم لا يفقهون معنى الخير والشر، والشر والذي هو أسوأ وأكثر شراً، فالعاقل هو الذي أدرك أخف الضررين فتحمله لدرء أشدهما، العاقل هو الذي يدرك أخف الضررين فيتحمله درءاً لأشد الضررين، النبي r وقع اتفاق الصلح مع قريش ببنوده المشهورة ولا داعي للخوض فيها، ومن أحد هذه البنود: من دخل في عقد محمد -أي في عقد المسلمين– فله ذلك ومن دخل في عقد قريش فله ذلك، تحالفت بنو خزاعة وهي قبيلة مشركة مع النبي r هل رفض النبي r تحالفها معهم؟ تقبل ذلك، وتحالفت بنو بكر مع قريش؛ واضح أنه لا يعيبهم ذلك فهم مشركون مع مشركين.
لا تبحثوا في الأمور التي تتجاوز حدود دورنا نحن، ربنا تبارك وتعالى قال: )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ( أنت ستُسأل عن عملك ولن تُسأل عن عمل غيرك، فهل وضعت نفسك في ميزان الحساب؟ كلنا ينبغي أن يتحمل مسؤوليته في حفظ أسرته، في حفظ بيته، في حفظ حيه، في حفظ حدود الله تعالى، في حفظ هذا الوطن في سلامة هذه الأمة، ينبغي أن نتحمل مسؤولياتنا، ينبغي أن نراجع أنفسنا. والعودة عن الخطأ مكرمة وعقل وصون للذات وخطوة للنجاة غداً يوم القيامة )إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( أجل هذا ميزان الله سبحانه وتعالى، فأن نعود إلى رشدنا لعل ذلك يحوّل الخسارة إلى ربح، على الرغم من أننا خسرنا الكثير؛ ولكن أن لا نخسر ما بقي هو ربح، وأن نصون ما بقي من مقدرات أمتنا ووطننا هذا كسب، أما أن نردد مقولات يلقننا إياها أعداؤنا لكي نتمادى في تحطيم أنفسنا وتحطيم وجودنا وإهانة كرامتنا؛ فهذا من العناد الأخرق.
كلنا ينبغي أن يسهم في تصحيح المسار على أي مستوى من المستويات )كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ( ، )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ # وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (
أيها المسلمون: لا ينبغي أن نحمل التبعة على الآخرين بل ينبغي أن نتحمل تبعة تصرفاتنا، والآخرون يتحملون تبعة تصرفاتهم فالله سبحانه وتعالى يقول: )عليكم أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( لا يضركم والمخطئ يبؤ بخطئه والمصيب يكتسب يوم القيامة ثواب صوابه.
أسأل الله أن يلهمنا الصواب وأن نعود إلى جادة الحق والهدى، وأن يعود وطننا آمناً مطمئناً معافى إنه سميع مجيب
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
أيها المسلمون
إذا سمعت كلمت حق فاسْعَ إلى تنفيذها، ولا تتسقط أخطاء الآخرين فلعل أخطاءك أكثر، تحمل مسؤولية نفسك، أنت لن تسأل عن المخطئ إنما تُسأل عن خطئك أنت.
لا تكن من الذين اعتادوا أن يضعوا الآخرين تحت مجهر النقد فقد قالوا:
يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجزع في عينه
دعونا نحاسب أنفسنا أما غيرنا فإما أن يحاسبوا أنفسهم، أو أنهم سيأتون صاغرين للحساب فإن اليوم عملٌ ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
خطبة الجمعة في 29/11/2013


تشغيل

صوتي