مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 22/11/2013

خطبة الدكتور توفيق: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا


)قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا (
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(
ويعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن نرعى أبناءنا على النحو الذي كان عليه سيدنا لقمان بحكمته وتوجيهه لولده إذ حفظ لنا تلك المواعظ والنصائح ومنها: )يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ"
وروى البخاري َعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"
أيها المسلمون
إن أهم واجب يطلب من المجتمع النهوض به، وقد عهد به ربنا تبارك وتعالى إلى الهيئة الاجتماعية، بَدءاً من ولي الأمر وانتهاءً عند ولي الأسرة؛ هو بناء الشخصية السليمة في عقيدتها السليمة في تربيتها السليمة في سلوكها؛ لتقدم للمجتمع الإنسان السوي البنّاء ذي الخلق القويم والتصرف الصحيح والتربية السليمة، والمجتمع كلٌ والفرد لبنة فيه، وأي خلل في هذا الفرد ينعكس بدوره على المجتمع بأسره، واستقامة السلوك تتطلب تربية صحيحة، تقتضي وجود رقابة دينية نابعة من قلب الإنسان، فالوازع الداخلي أساس لابد منه لاستقامة السلوك والتصرف، وأي خلل في البناء التربوي سيترك أثره في السلوك والتصرف من حياة الفرد، وبناء الفرد يبدأ منذ النشأة الأولى؛ بل منذ اختيار الزوجة لأنها الأكثر تأثيراً في تربية الطفل وتكوين شخصيته. وبعد ذلك يشترك الأبوان مع الهيئة الاجتماعية في تربية الطفل وهو غض الجسم لين العريكة سهل الاستجابة.
والتربية أساسها سلامة العقيدة؛ بحيث تترسخ في عقل الطفل وقلبه عقيدة صحيحة يدرك من خلالها وجود الخالق، ومحبة الخالق، والحياء من الخالق، عقيدةٌ تعرّفه بربه إيماناً عقلياً مبنياً على فهمٍ سليم لحقيقة الخلق، باللغة التي يفهمها الطفل ويعقلها، ثم ترسيخ معنى المسؤولية والخير والشر والحسن والقبح، وغرس هذه المعاني في شخصية الطفل، ترسيخ معنى المسؤولية والجزاء؛ بالمكافأة الحافزة المعززة لكوامن الخير والتوجه إليه، والعقوبة أو الجزاء الرادع عن الشر والإساءة والمانع منه.
إن ارتباط الخطأ بالروادع، و ارتباط الاستقامة والخير بالدوافع والتعزيزات.. هذا كله مرتبط بمراقبة تترسخ في قلب الطفل تقوم على الحب والحياء من الله، تقوم على الخشية من عقابه بالمستوى الذي يعقله، فيدفعه إلى الخير ويردعه عن الشر، ولهذا منهج تربوي يضيق المجال عن بيانه والتفصيل في مضامينه.
إن المجتمع المتحضر هو ذلك المجتمع الذي يندفع أبناؤه إلى العمل الصالح وجدت الرقابة البشرية أم غابت، مع دعم الاندفاع بالسلطة المنزلية والسلطات الاجتماعية المختلفة.
أيها المسلمون:
أمامي نموذجان: الأول المجتمع العربي الجاهلي كان مرتبطاً بالخمر، فالخمر جزءٌ من حياته اليومية، يشربونها صباحاً ويسمونها الصَبوح، ويشربونها مساءاً ويسمونها الغَبوق، كانت متجذرة في حياتهم، وكم ورد ذكر الخمر في أشعارهم مدحاً وافتخاراً وحديثاً عن منادماتهم، حتى في شعر شاعر النبي r حسان بن ثابت. والخمر لا تنسجم مع الحياة الإسلامية، الحياة الإسلامية وعي؛ والخمر فقد للوعي. الحياة الإسلامية اتزان والخمر نقيض الاتزان، الحياة الإسلامية سلامة في الصحة والتفكير والخمر نقيض ذلك.
عندما أراد ربنا اقتلاع هذه الآفة من المجتمع العربي بشريعته تدرج في ذلك فأنزل )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا(؛ بل أنزل قبل ذلك قوله )وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( العربي ذواقة يدرك دلالة الكلمة )تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا( والعطف يقتضي المغايرة فالسَكَر إذن رزق غير حسن، أدرك بالإيحاء أن السكر حالة غير سوية، ثم بين أن الخمر والميسر فيهما ضرر وفيهما منفعة بالمنظور المادي ولكن ضرره أشد، والعاقل عندما يعلم أن ضرر هذا العمل أكثر من نفعه يحاول أن يتجنبه، ثم حدث أن قام فريق من الصحابة – طبعاً كانت الخمرة موجودة ومترسخة والكثيرون كانوا يشربونها، وقلة كانوا يتجنبونها لدافع ذوقي ولنوعٍ من الاشمئزاز من آثارها – فقاموا يصلون بعد أن شربوا فاضطربت قراءة الإمام منهم اضطراباً شديداً نتيجة عدم اتزانه وسكره، فنزلت الآية )لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ( إذاً فبين أوقات الصلوات لا ينبغي أن تشرب الخمر، ونتيجة لذلك اجتنب كثيرٌ من المسلمين الخمر خلال هذه المراحل التي أشرت إليها، بقيت قلة لا تزال تشرب الخمر، اجتمعوا في ليلة وتنادموا وشرب بعضهم، ثم بدأوا ينشدون شعراً جاهلياً قديماً فيه تفتخر بعض القبائل على بعض أيام حروبهم، يوم بُعاث ويوم سُمير يوم كانوا يقتتلون، وبدؤوا يستذكرون: هكذا هجوناكم وهكذا رددنا عليكم، وارتفعت الأصوات حتى قاموا ليضرب بعضهم بعضاً وليقتتلوا، فنزلت الأية )إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ # إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( منذ نزول تلك الآية إلى هذا اليوم كل إنسان مسلم يدرك أن الإسلام يتنافى مع الخمر، حتى الكفرة في الغرب يدركون تماماً ويعرفون أن إسلام المسلمين يمنعهم من الخمر سواء وجدت العقوبة أم لم توجد، وجدت السلطة أم لم توجد. لأن إسلامهم يتنافى مع الخمر، نعم ثمة بعض النفوس المريضة تنزلق إلى شرب الخمر، لكن الشخصية المسلمة السوية لا تشرب الخمر، حتى بعد غياب الحدود وتعطلها بقرون إلى هذا اليوم فالمسلم يمتنع عن شرب الخمر لأنه مسلم – وليس خوفاً من السلطة و إنما حباً لله وطاعة له- أليس كذلك ؟
والنموذج الثاني: دولة متطورة متقدمة طبياً وقانونياً وأمنياً – وهي أمريكا- منعت الخمر نظراً للتقارير التي توافرت لديها عن أضرار الخمر، فهي المسؤولة عن حوادث الطرق، وعن كثير من الجرائم، وعن كثير من الأمراض، هذه المعطيات اقتضت أن يصدر أمر بمنع الخمر، وترتيب عقوبات شديدة أدناها أشد من عقوبة شرب الخمر في المجتمع الإسلامي، فماذا كانت النتيجة؟ بعد سنوات تضاعف شرب الخمر مع كل إمكانياتهم الأمنية وتقدمهم ومدينتهم. الوازع الديني هو الأقوى في ضبط سلوك الإنسان، والوازع الديني يبدأ بالترسخ في قلب الإنسان منذ الأيام الأولى بتعميق وتجذير هذا المعنى في قلب الطفل؛ بل إن الأذان في أذن الطفل عندما يولد فيه ترسيخ لهذا المعنى، لتكون الكلمة الأولى التي تدخل إلى قلب هذا الطفل عبر أذنه الله أكبر، ليست (الله أكبر) التي ترتكب بها الجرائم، وإنما الله أكبر التي تترسخ فيها معاني الخير معاني الفضيلة معاني السمو.
إن المحاولة لاستبعاد التربية الإسلامية هي تكريس للجريمة والانحراف والشذوذ في المجتمع الإسلامي، بل إنني أقول إن على أبناء مجتمعنا بكل أطيافهم أن يجعلوا من الدين وازعاً يمنع من الانحراف والشذوذ والفساد، ودافعاً يدفع إلى الخير والبناء والإصلاح، سواء كان هذا الأمر عندنا نحن المسلمين بما لدينا من عقيدة آمنا بها واعتقدنا بها والتزمنا بمقتضياتها؛ أم كان ذلك عند غيرنا أعني غير المسلمين فهناك بيننا )تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ( وهي موجهة للمسيحيين وغيرهم، فهم أيضاً عليهم أن يجعلوا من تعاليمهم الدينية وازعاً يحول بين الإنسان والانحراف والفساد والإجرام، دافعاً إلى الخير البناء والإصلاح والسلام، وهذه وظيفة القائمين على المؤسسة الدينية عندنا وعندهم وعند كل فريق من الناس.
هذه القيم قيمٌ ترسخها الفطرة وتجذرها وتدفع إليها، والذين يتكلمون عن تربية أخلاقية بعيداً عن المعنى الديني، أقول لهم: متى نعرّف هذا الطفل على ربه وعقيدته؟ النبي r يقول : " مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ " لم يقل لسبعين، "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ" أي لتكون المسألة جدية أي أنها أمر تربوي حازم يوجه إليه بالدوافع والروادع، أجل الأمر جدي وليس هواية ولا ممارسة نوع من الفضول؛ بل إنه ترسيخ لمعنى الخير البنّاء في شخصية الإنسان.
نعم ارتبطت اليوم كلمة (الله أكبر) ببعض التصرفات التي أنتم أدرى بها، لتشويه معنى كلمة (الله أكبر)، هذا لا يغير من معطياتنا شيئاً، إن تصحيح المفاهيم وظيفة مطلوبة، ولقد ذكر ولي الأمر في بلادنا في إحدى تصريحاته في مقابلة تليفزيونية في آخرها قال: ((إن علينا أن نرسخ معنى الإيمان بالله ونصحح هذا المفهوم في قلوب الأطفال لئلا يتشوه هذا المعنى نتيجة ارتباط كلمة (الله أكبر) بالأعمال الإجرامية التي تمارس هنا وهناك )).
إجرام عظيم جداً أن يقال (الله أكبر) ويقصف الجامع الأموي!! شيء شنيع أن يقال (الله أكبر) وتقصف المدارس والمؤسسات التربوية!! شيء مذهل أن يقال (الله أكبر) وترمى أحياؤنا وبيوتنا و أسواقنا!! هل يغير هذا من كلامنا شيئاً؟ لا إن هؤلاء ملصقون بالإسلام ولا يمثلونه، إسلامنا ليس تلك الأعمال الإجرامية، إسلامنا تربية تسمو بنا إلى الخير، إلى الرشد، إلى السلام، إلى الحب إلى الطمأنينة، إلى العمل الصالح، إلى العمل البناء. لا إلى الجريمة ولا إلى الفساد.
إن استغلال تلك لجرائم لتشويه الإسلام وظيفة، يعني أن ثمة فريقين يتكاملان في العمل، فريق يشوه الإسلام بتلك التصرفات، وفريق يحذر من الإسلام لأنه فيه تلك التصرفات، إنهما فريقان متناقضان ظاهراً ولكنهما يتكاملان في المنظومة، واحد منهم يتحدث باسم الإسلام والآخر كردة فعل يحارب الإسلام، كلاهما فريق واحد لكنهما يقتسمان الأدوار.
إن إسلامنا محبة، إسلامنا بناء، إسلامنا تعاون، إسلامنا تراحم، إسلامنا سمو، إسلامنا حضارة. وليس همجية ولا إجراماً ولا قتلاً ولا سفك دماء، وما يمكن أن يكون قد ارتبط في أذهان البعض من أن الإسلام إرهاب....أعتقد أنه ليس شيئاً موجوداً إلا في أخيلة الجهلة والمغرضين، كلنا يعلم ما هو الإسلام، ولكي يعلم الجميع ما هو الإسلام؛ يجب أن ترسخ التربية الإسلامية منذ النشأة الأولى للطفل، يشترك في مسؤولية تحقيق ذلك الأب والأم والمعلم والشارع ووسائل الإعلام وجميع المؤسسات في المجتمع الإسلامي.. في هذا المجتمع الذي نعيش فيه، كلنا مسؤول كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسؤولة عن رعيتها، كلنا مسؤول وكلنا عليه أن يؤدي دوره في هذه المسؤولية لبناء مجتمع أخلاقي بناءٍ حضاريٍ لنبني مجتمعاً متماسكاً يواجه العدو الصهيوني برجولة ويواجه العدو الداخلي برجولة.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لما فيه خير هذه الأمة وخير أطفالنا ونشئنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
خطبة الجمعة في 22/11/2013


تشغيل

صوتي