مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 04/10/2013

خطبة الدكتور توفيق: اغتنموا هذا العشر بالرجوع إلى الله


اغتنموا هذا العشر بالرجوع إلى الله
خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
)وَالْفَجْرِ #وَلَيَالٍ عَشْرٍ # وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ # وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ # هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(
ويقول جلَّ شأنه: )وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (
ويقول سبحانه: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ #فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (
روى الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس t عن النبي r قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر ، فقالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ فقال رسول الله r: “ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء "
أيها المسلمون:
لئن قعدت بأحدنا الوسائل والأسباب وحالت الموانع من أن يكرمه الله بالحج إلى بيت الله الحرام، فإن فضل الله تعالى ورحمته لا يحدها زمان ولا مكان، فإذا كانت رحمة الله تبارك وتعالى وكرم ضيافته تنال الحجيج؛ فإن هذه الأيام فيها من رحمة الله تعالى ما يسع المقبلين كل المقبلين على طاعته المندفعين إلى عبادته الساعين في سبيل مرضاته .
أجل .. رحمة الله تعالى ليست مقتصرة على الحجيج بل تبلغ كل مسلم، فالعمل الصالح في هذه الأيام القادمة أفضل منه في سائر أيام السنة، وصيام يوم عرفة منه يكفر سنة قبله وسنة بعده، والفرص تأتي: مضى شهر رمضان، ولكن رحمة الله تبارك وتعالى لا تنحصر في رمضان في الحديث: “إن لكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها “ها نحن على أبواب العشر من ذي الحجة التي وصفها النبي r بأن العمل الصالح فيها، لا يعدله عمل صالح في غيرها "ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله تعالى منه في هذا العشر" هي أفضل حتى من الجهاد في سبيل الله، إلا من خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء.
بقي أن نقف عند مدلول كلمة العمل الصالح، ما معنى العمل الصالح؟ العمل الصالح كلنا يعلم أنه يشمل الصلاة والصوم وتلاوة القرآن والذكر وقيام الليل، ولكن كل هذه الأعمال التي ذكرتها أعمال تقتصر في آثارها على صاحبها فيما يبدو، فهي غير متعدية، أثرها يظهر ويتجلى في صاحبها، إلا أن العمل الصالح دائرته أوسع ونفعه أعظم بمقدار ما تكون دائرته متعدية على مساحة أشمل، ذلك يقتضي أن يكون من جملة الأعمال الصالحة التي يقبل فيها العبد في هذه الأيام إلى الله عزَّ وجل، أن يكون منها صلة الرحم، أن يكون منها حسن الجوار، أن يكون منها مساعدة ذوي الحاجة وما أكثرهم اليوم، ولا شك أن من أعظم القربات إلى الله عزَّ وجل كف الأذى عن الناس؛ فكف الأذى عن الناس عبادة بحد ذاتها. وكل من يدعي الإسلام اليوم مدعو إلى أن يترجم إسلامه بتوبة صادقة إلى الله عزَّ وجل، وأن يترجم إسلامه بأن يمسك عن إيذاء إخوانه في أنفسهم وفي أموالهم وفي أعراضهم، أن يمسك عن الأذى وإلحاق الشر بإخوانه وأبناء مجتمعه، الأذية لا يجوز أن تكون لأبناء مجتمعنا، السيف لا يشهر في وجه إخوانك، السيف يشهر في وجه العدو. أما الصائل فإنه قد وقف إلى جانب العدو في صياله، الصائل الخارج على النظام الخارج، الخارج على القانون الذي ينشر الفتنة في الوطن، هذا الإنسان قد وقف إلى جانب العدو. وهاهو ذا العدو يتضامن معه في وقوفه ضد الوطن، وضد الأمة وضد مصالحها. إذا كنا نريد أن نتوب إلى الله عزَّ وجل فينبغي أن نكف أيدينا عن إلحاق الأذى والشر بأبناء أمتنا هنا وهناك. نفاجأ به اليوم في هذه المنطقة، وفي اليوم الثاني في منطقة أخرى. أقول إن إلحاق الأذى بالناس هو أمر لا يمكن أن يقره شرع ولا خلق ولا ضمير، كيف وهم أبناء أمتك... جيرانك... أهلك... هم أبناء دينك. اتق الله في دمائهم اتق الله في أموالهم “كل المسلم على المسلم حرام “ ألم تكن هذه وصية رسول الله r في يوم عرفة في حجة الوداع يوم خاطب الأمة كلها من خلال أولئك الصحابة الذين وقفوا أمامه وكأنه يخاطب الأجيال كلها من خلالهم، إذ سألهم في أي شهر نحن ؟ قالوا: شهر ذي الحجة ، في أي بلد نحن ؟ قالوا: في بلد الله الحرام مكة المكرمة ، في أي يوم نحن؟ في يوم عرفة – أعظم يوم في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام، ثم قال: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، من جنا بحق الناس فقد جنا على نفسه ومن ألحق الأذى بإخوانه وأبناء بلده فقد جنا على نفسه ؛ لأنه إنما يوقع نفسه في سخط الله عزَّ وجل – لا يجني والدٌ على ولده ، ولا ولد على والده ألا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيئاً إلا ما أحل من نفسه ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلِمون ولا تُظلَمون “والحديث طويل في خطبة الوداع عن رسول الله r .
أيها المسلمون:
ما أحوجنا اليوم ونحن على أبواب عشر ذي الحجة وقد حيل بين كثير منا وبين الحج إلى بيت الله الحرام ، إلا أن رحمة الله تعالى أوسع من أن يحدها مكان، رحمة الله تبارك وتعالى ستغشاكم وستنالكم وسوف تشملكم بإذن الله تبارك وتعالى، وسيأتي الفرج إثر الفرج، والنصر إثر النصر، والخير إثر الخير، بمقدار إقبالنا على الله عزَّ وجل .
أيها المسلمون:
لنصطلح مع ربنا، ولنعد إلى ربنا، ولنعد إلى منهج ربنا سبحانه وتعالى؛ نهج النبوة نهج الخير نهج الصلاح نهج الوئام نهج المحبة والتضامن والتضافر، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ( ألم يقل الله عزَّ وجل: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا( عندما يكون الرابط فيما بيننا حبل الله فلن نفترق، ولكن عندما يكون الرابط فيما بيننا مصالح وانتماءات وغيرها فسوف نتشرذم، وسوف نتفرق. وها أنتم ترون كيف تشرذموا، وكيف تفرقوا، وكيف يضرب الفصيل منهم الآخر، لماذا ؟ لأن لهم انتماءات أخرى ليست إلى حبل الله عزَّ وجل، وإنما إلى حبال أخرى تضمهم حبال أخرى... تشتملهم حبال أخرى، ولذلك تجد أنهم قد تنازعتهم الأهواء وفرقتهم الانتماءات فهم ينتمون إلى غير حبل الله عزَّ وجل، يرفعون راية اسم الله سبحانه، لكنهم في الحقيقة ليسوا على ذلك الذي يدعون، وليسوا على النهج الذي يدعون.
هذا الكلام الذي أقوله عن الآخرين ، بقي أن نقول عن أنفسنا أيضاً. لا ينبغي أن ننسى أن علينا نحن بكل فئاتنا وبكل أصناف أبناء أمتنا أن نتقي الله عزَّ وجل وأن نصطلح مع ربنا تعالى، وأن نعود إلى نهج الحق، نهج الخير، نهج العدل نهج الاستقامة ، نهج ديننا وشرع ربنا تبارك وتعالى .
عندما توجه الجيش إلى فارس بإمرة سيدنا سعد بن أبي وقاص، أوصى سيدنا عمر سعدَ بن أبي وقاص بوصيةٍ حفظتها السنة، أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو – أفضل سلاح يمكن أن نستعمله في مواجهة عدونا إنما هو تقوى الله سبحانه – آمرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، إن أعدى عدو لنا معاصينا، أي: إن أشد عدو لنا في حياتنا وفي مواجهتنا لعدونا إنما هي معاصينا، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، بماذا تميز المسلم على الكافر ؟ يتميزان بأن هذا مطيع لله، وذلك عاص لله. والله تعالى يتولى من أطاعه على من عصاه. فإذا استوينا في المعصية فهم أقوى منا، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأنا عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان الفضل لهم علينا في القوة، واعلموا أن في مسيركم حفظةً من الله يعلمون ما تفعلون، أي أن تكون دائما رقابة الله عزَّ وجل هي الضمانةَ لاستقامتك على طاعته والتزامك بنهجه. فاستحيوا منه ولا تعملوا معاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا، فلن يُسلط علينا وإن أسأنا. فرب قومٍ سُلط عليهم من هم شر منهم ، كما سُلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله عزَّ وجل.
يا سعد لا يغرنك إذا قيل إنك خال رسول الله r -سعد هو الرجل الوحيد الذي فداه رسول الله r بأبيه وأمه إذ قال له “ارم سعد فداك أبي وأمي “– هذا ما قال النبي، ومع ذلك يقول له سيدنا عمر لا يغرنك أن قيل إنك خال رسول الله فإنه ليس نسب إلا الطاعة فانظر الأمر الذي رأيت عليه النبي منذ بعث حتى فارقنا فإلزم ذلك الأمر، هذه عظتي لك ، فإن تركتها وغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين .»
هذا ما نوصي به أنفسنا ونوصي به كل إنسان من أبناء هذا الوطن في مواجهة فتنة عمياء قد أحرقت البلاد والعباد، أقول أيها المسلمون إن ملامح الفجر قد بزغت، وإن علامة الفرج قد ظهرت، فلا نضيعنَّها بغرور ولا بمعصية ولا بمكابرة، فإن المعصية باب من أبواب البلاء )فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ( لا نكونن من أولئك فإن المعصية كما قال سيدنا عمر سبب للبلاء وسبب للهزيمة.
ألا فإني أوصي نفسي وكل أبناء أمتنا بالعودة الراشدة إلى الله، من أخطأ ومن لم يخطئ، من خرج ومن لم يخرج، من والى ومن عارَضَ، أن نعود كلنا إلى صف طاعة الله عزَّ وجل إلى صف الأخوة بالله تعالى إلى صف الخير والرشاد إلى صف العدل والاستقامة، ولا نجعلن من الحقد حجاباً بيننا وبين أبناء أمتنا، فالحقد لا يمكن أن يأتي بخير، لا يمكن أن يأتني إلا بالدمار وبالخسارة، وسيخسر الحاقدون أنفسَهم. لنحكّم العقل، ولنحتكم إلى كتاب الله عزَّ وجل إذ دعانا إلى أن نصلح ذات بيننا فأصلحوا ذات بينكم ،)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ( بهذا أُمرنا، أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نصلح ذات بيننا، وأن نعود أمة متماسكة، وأن نعود أمة يتعاطف أبناؤها ويتعاونون، العدو هناك حيث يدمر المسجد الأقصى، العدو هناك وليس هنا، لتكن الأسلحة كلها موجهة إليه، موجهة إلى أولئك الذين اغتالوا وطننا اغتالوا مقدساتنا واغتصبوا المسجد الأقصى. لا إلى بعضنا، لا إلى إخواننا، لا إلى أبناء أمتنا، أي جهاد هذا أن أقتل أخي، وأن أقتل جاري، وأن أقتل أبناء أمتي أي جهاد هذا !! الجهاد أن تتجه البنادق كلها إلى جهة واحدة إلى أولئك الذين دنسوا المسجد الأقصى واغتصبوا فلسطين، أولئك الذين حشدوا في البحار، الذين قد حاقت بهم لعنة الله عزَّ وجل )سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ( لن ترتفع لهم راية ، وإن عزتهم إنما تكون في معصيتنا ، وقوتهم إنما تكون في تفرقنا ، قوتهم في ضعفنا، وليست فيهم، فهم ليسوا شيئاً أمام قدرة الله عزَّ وجل، هم ليسوا شيئاً أمامنا إذا كنا مع الله سبحانه وتعالى، هم لا يمكن أن يشكلون أي خطر علينا إذا كنا مع الله ، أما إذا كنا مع الشيطان فقد استوت الماء والخشبة، هم أقوى منا بلا شك. عندئذ هم أكثر عدد وعدة، أما إذا كنا مع الله فوالله لن يتمكنوا أن يلحقوا بنا أذى أو شراً، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، وهاهي ذي علامات ذلهم وهوانهم قد بدأت وذر قرنها وستحيق بهم ألوان البلاء )وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ(
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم


تشغيل

صوتي