مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/08/2013

خطبة الدكتور توفيق: صفات المنافقين (1)


خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
صفات المنافقين (1)
أما بعد ، فيا أيها المسلمون ، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه العزيز
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (
ويقول جلَّ شأنه : )وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ # وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(
أيها المسلمون :
في الأسبوع الماضي ذكرت أن سورة البقرة قد ابتدأت بوصف المؤمنين بأربع آيات أو نحوها ، ثم في وصف فريق في مقابلها هويته واضحة لا لبس فيها، هم الذين انتهجوا منهج الكفر وصفهم بصفتين، ثم بدأنا بعرض الفريق الثالث الذي لا يقف مع صف المؤمنين فيحمل هوية الإيمان بوضوح وصدق وإخلاص، ولا يقف مع الكفرة في ظاهر شأنهم بوضوح وبيان لا لبس فيه؛ بل يريد أن يقف بين هذين الصفين، يريد أن يخدع هذا الصف، في الوقت الذي يمالئ فيه الصف الآخر .
هذا الفريق تناولته السورة في هذا الموضع بثلاث عشرة آية، ثم تناولته آيات أخرى قد نتعرض لها في مناسبات أخرى
صفات المنافقين...هذا الفريق الخطير الذي كان له أخطر دور في حياة الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة، هذا الفريق كان يتظاهر بالإسلام، فإذا ما سنحت الفرصة غدر بالمسلمين ونكل بهم، وأظهر الهوية الصحيحة التي يحملها، وهي الولاء للعدو وممالأة العدو، هذه الهوية يخفيها في عامة الأحوال، فإذا سنحت الفرصة، كشف عن هويته كما ظهر ذلك يوم غدر يهود بني النضير ، ثم مرة أخرى يوم غدر بنو قينقاع، وقف رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول إلى جانب اليهود، يهود بني النضير ويهود بني قينقاع ضد رسول الله وضد المسلمين، يتظاهر بأنه مسلم؛ بل لعله يأتي ويحضر المسجد، ويصلي فيما بيننا، ولكن حقيقته غير ذلك.
أول صفة فيه: أنه يظهر خلاف ما يبطن، يظهر الإيمان ويبطن الكفر، يتظاهر بالإسلام ولكن شخصيته الحقيقية أنه ليس بمسلم ، نحن المسلمين نتعامل مع هذا الفريق من الناس من خلال ظاهره، فنحن لم يعهد إلينا كشف بواطن الناس، ولا نملك أيضاً أن نكشف بواطن الناس، ولئن كان النبي r قد عرفه الوحي من عند الله عزَّ وجل بحقيقة هذا الفريق من الناس إلا أنه بوصفه ولي أمر؛ تعامل معهم كما يدعون، تعامل معهم بأنهم مسلمون. فلم يحاربهم كما حارب المشركين عندما خرجوا للقتال في معاركه معهم في أحد وبدر وغيرها، ولكنهم في حقيقتهم العنصر الأخطر المندس في الصف، والذي لا يفتأ ينتهز الفرصة إثر الفرصة ليفت في عضد الأمة وليدمر وجودها، ألم نر ما فعلوا في غزوة الأحزاب ؟! المسلمون كانوا في حالة خطر، اليهود من جهة، والمشركون من جهة والمنافقون - وهم الأخطر- المُخَذَّل من الداخل ، وقد تناولتهم آيات سورة الأحزاب، لا يريدون أن يعملوا مع المسلمين بل يريدون أن يفتوا في عضدهم وأن يشككوهم ويبعثوا في نفوسهم حالة الخوف والفزع إنهم يشككون في الدعوة الإسلامية كلها فقد قالوا ) مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( ، هكذا كان شأنهم، وهذا كان ديدنهم .
نعم .. فهم العنصر الأخطر الذي يجلس فيما بيننا، ويصلي في مساجدنا، ولكن إذا سنحت الفرصة مزق الصفوف وأثار الخلافات، وأثار الشحناء فيما بين الأب وابنه وبين الأخ وأخيه، تماما كما كان يفعل أهل النفاق عندما كانوا يريدون أن يشككوا في حقيقة الدعوة الإسلامية وسلامتها، ويشككوا في مصدرها وفي صدق النبي r إنهم يظهرون الإيمان وهم في حقيقتهم ليسوا بمؤمنين، الله تعالى كشف حقيقتهم كظاهرة لا كأفراد، والأفراد كانوا مكشوفين للنبي r إلا أنه وكل بواطنهم إلى الله عزَّ وجل )إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ( أي كاذبون في دعوى إسلامهم وإيمانهم أنك رسول الله، فهم ليسوا مؤمنين بأن محمد رسول الله r ولو آمنوا به لأطاعوه ولو آمنوا لانقادوا لهديه وشرعه ولكنهم ليسوا بمؤمنين .
الظاهرة الثانية : )فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ( هم يشكون في حقيقة الدعوة يشكون في هوية الإسلام، هم يعانون من حالة من التردد في حقيقة هذا الدين، إنهم يعانون من حالة الشك التي تجعلهم ينقذفون من صف إلى آخر. فتارة تجدهم بين المسلمين مسلمين، وتارة تجدهم بين الكفرة يحملون هوية الولاء لهم ويتآمرون معهم ضد المسلمين، يفسدون في الأرض )وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ( يدمر، يحرق، يقتل، شأنهم إتلاف المزروعات، تدمير المنشآت، ممالأة الكفار، عمالتهم لهم ... ، كل هذه الصفات قد أوضحها ربنا لنا كظاهرة خطيرة تهدد المجتمع الإسلامي، وتهدد سلامة الأمة، إن مثل هذه الظاهرة شكا منها النبي في بَدء الدعوة، وتظل هذه الظاهرة خطراً على المجتمع الإسلامي مادام الإسلام قائماً؛ لأن الابتلاء أمر مترافق مع وجود هذا الدين، فالحق والباطل في صراع إلى أن تقوم الساعة.
من مفاسدهم إشاعة المعاصي وتسميتها طاعات، تسمية المفاسد بغير أسمائها، ينشرون الفاحشة، ويسمونها بتسمية خيّرة، ويضعونها ضمن العلاقة الشرعية وغير ذلك، ينشرون الفساد والسرقات ويسمونها بغير أسمائها، إنها ظاهرة خطيرة جداً عانت منها الدعوة الإسلامية في أيامها الأولى، وهي ظاهرة مستمرة ، تظهر كلما ضعفت الدعوة الإسلامية وضعف الوجود الإسلامي في المجتمع؛ تجدها ظهرت على السطح وتحاول أن تنشر ظلماتها في المجتمعات الإسلامية، إنهم يصدون عن سبيل الله، ينشرون الفاحشة، يقتلون ويتلفون، والأنكى من ذلك أنهم يسمون إفسادهم إصلاحا، ويدعون أنهم إنما يفعلوا ذلك بغية الإصلاح، وهل كان الإصلاح يوماً يمر عبر قنطرة الإفساد ؟! ما سمعنا بهذا، لا يمكن أن يكون الإفساد مؤدياً إلى الإصلاح، والغاية تبرر الوسيلة عند أولئك عند الكفرة، عند الفاشيين، عند موسوليني، عند أولئك. أما نحن فالوسيلة القذرة لا تؤدي إلا إلى نتائج قذرة، والغاية الصحيحة لا يمكن أن يكون السبيل إليها إلا سبيلاً طاهرة نظيفة سليمة شريفة سامية، أما الوسائل القذرة فلا يمكن أن تؤدي إلا إلى غايات قذرة، وإلا إلى نتائج مفسدة )إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (أي إصلاح هذا ؟! أي إصلاح أن تتعامل مع اليهود ضد النبي في الماضي والحاضر؟! أي إصلاح هذا أن تريد إصلاح بلدك، وتستمد برنامج الإصلاح من إسرائيل ومن أمريكا ومن ألمانيا ومن فرنسا ومن بريطانيا ؟! أي إصلاح هذا الذي تستمد برامجه وخططه ووسائله من عدوك ؟! الهوية واحدة إنها هوية النفاق التي كشفت عن سوأتها في عهد النبوة يوم تعامل مع اليهود وتعاون مع اليهود، تعاون مع الروم. وبنوا مسجداً تستروا بمسجد مسجد الضرار، تظاهروا بأنهم أرادوا أن يبنوا مسجداً، وكان وكراً للجاسوسية. وضعوه لكي يستقبلوا فيه ذلك العميل الذي يتعامل مع الروم؛ لكي يكون إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، هذا ما قاله كتاب الله عز وجل : )وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ # لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(وأمر النبي r بهدم ذلك الذي سمي مسجداً، ولكنه كان مركزاً للتآمر على الدولة الإسلامية، وضعوه في قلب المدينة المنورة، ليس اليوم، أقول في عهد النبوة، لكن الأسلوب واحد ن ويتعدد في أشكاله، ولكن حقيقته وماهيته واحدة .
أيكون نشر القتل والفتنة إصلاحاً ؟! إشاعة الفساد والخلاف والصراع الدموي، هذا يمكن أن يكون إصلاح؟ ! ، أم أنهم يتذرعون بأن هذا يراد به الإصلاح ..!! قلت وينبغي أن نعرف جيداً أن الغاية الشريفة لا تكون عبر وسائل فاسدة، وسائل قذرة، فالوسائل القذرة لا تؤدي إلى نتائج شريفة قدسية.
)الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(إذا دعي هؤلاء إلى إيمان يوافق إيمان الأمة، إيمان أهل السنة والجماعة إيمان الصحابة والتابعين إيمان جماعة المسلمين قالوا :) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ( سمَّوا المسلمين سفهاء، سمَّوا صحابة رسول الله، سمَّوا أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، سمَّوا السلف الصالح سفهاء )أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ( لا يعلمون: ليس معناه أنهم لا يعلمون نفاقهم؛ ولكن لا يعلمون أن هويتهم مكشوفة وأن ضلالهم مفضوح وأن حقيقتهم قد تعرت، وهي أنهم وسائل وأدوات لعدو الأمة في قلب الأمة وفي صدر الأمة.
يصفون أصحاب النبي r بالسفاهة في خلواتهم، ثم إذا اجتمعوا إلى أسيادهم، لم يفصل كتاب الله عز وجل من هم شيطينهم )وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ( يفضح تآمرهم وخداعهم ونفاقهم وكذبهم ودجلهم، الله عز وجل سيعري حقيقة هذا الفريق الخطير من الناس الذين اندسوا في المجتمع الإسلامي فقال : )اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ( يدعهم يستغرقون نتيجة كذبهم وتضليهم وفسادهم يستغرقون في هذا المنهج الذي سيودي بهم ويؤدي بهم إلى الهلاك والدمار ، وهذا ما حصل .
هذه صفات المنافقين، والحديث عنهم قد يطول، ولكن هذه الصفات اليوم جدير بنا أن نقف عندها بتأمل، وجدير بنا أن نفهما بشكل واعٍ؛ لأن هذه الظاهرة ليست ظاهرة انحصرت في عهد النبوة، بل هي ظاهرة تكررت في تاريخنا وستتكرر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأنها ظاهرة لشكل من الصراع بين الحق والباطل، وبين باطل يلبس وجه الحق ليخدع أهل الحق أنه على حق.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي