مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 03/05/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 3 / 5 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 3 / 5 / 2019


أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، ويقول النّبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).


أيّها المسلمون؛ ها هي ذي موائد الرّحمة الإلهية قد بُسطت، وآن الأوان أن نحلّ عليها بفضل الله وكرمه، وننال من عطاء الله فيها وإحسانه؛ مائدة الرحمة الإلهية في شهر رمضان. والرحمة الإلهية هي الرّسالة التي بعث بها سيّد الخليقة سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم . ألم يقل ربّنا جلّ شأنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)؟! هذه الرحمة شاملةٌ عامةٌ، عمّت البشريّة بل العوالم كلّها، ألم يقل: (لِلْعَالَمِينَ)؟! ويقول سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) من منطلق أن الرّحمة الإلهية هي رسالة النّبي صلى الله عليه وسلم ، أقف في هذا الشهر المبارك وأتحدّث إلى أصنافٍ من النّاس.


أمّا الصّنف الأوّل، فهم أولئك الذين أكرمهم الله بالهداية وأنعم عليهم بالإسلام والتزموا به. نحن الذّين شرفهم الله بالسّجود بين يديه، وأكرمهم بـ(لا إله إلا الله) وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبالتزام أوامره واجتناب نواهيه. أقول لأنفسنا: هل يا ترى نحن على النحو الذي أمرنا الله به؟ هل التزمنا فعلاً بأوامر الله واجتنبنا نواهيه؟ لو أن أحدنا استذكر هذا المعنى وأنّه اللّيلة على موعدٍ مع الأجل، هل هو راضٍ بما قد أعدّ للموقف بين يدي ربه؟ ليفكر كلٌّ منّا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ). ماذا أعددنا للوقوف بين يدي الله جل شأنه؟ وبماذا قد تزودنا لهول الموقف غداً يوم لا ينفع مال ولا بنون؟!


يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم : (الكَيِّس – أي العاقل - مَنْ دَانَ نَفْسَهُ - أي حاسب نفسه - وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ – أي الأحمق - مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأمَانيّ). ويقول لنا سيّدنا عمر: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا ليوم العرض الأكبر)، يوم نقف بين يدي الله  لا نملك إلا ما قد تزودنا به من عملٍ صالحٍ يسعدنا أن نجده بين يدي الله قد ادّخر لنا.


أمّا الفريق الآخر، فهم مسلمون لكنّهم فرّطوا في حقّ أنفسهم وأسرفوا وأوغلوا في سبل المعاصي والمنكرات، نسوا ربّهم وطغوا وأتبعوا أنفسهم شهواتها؛ هؤلاء تناديهم الرّحمة الإلهيّة، وفي هذا الشهر بالذّات، تهزّ كيانهم وتذكّرهم بنداءٍ مفعمٍ بالرحمة، مفعمٍ بالعطاء والإحسان، إذ يقول الله في كتابه الكريم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ).


هذا النّداء المفعم بالرّحمة موجهٌ إلى أولئك الذين أوغلوا في سبل المعاصي غافلين عما يستقبلهم. ما ينبغي أن يسوفوا فلا يتذكّروا وقد أتى داعي الموت إليهم؛ الآن عملٌ ولا حساب، فلنستعد لذلك اليوم بتوبةٍ صادقة. أمَا وقد جاء رمضان: و(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، باستثناء حقوق العباد التي ينبغي أن نردّها إلى أصحابها.


نعم، صدق التّوبة إلى الله أمرٌ في غاية الأهمّية بالنّسبة لنا جميعاً، وبالنّسبة لمن عرف في نفسه التقصير والإسراف؛ لا يسمحنّ لليأس أن يتسلّل إلى قلبه؛ لا يصدّنّه الشّيطان عن الإقبال على الله بالقنوط من رحمة الله، فرحمة الله وسعت كلّ شيء.


أمّا الفريق الثالث، فهو فريقٌ لم يعرف معنى الإيمان، وأنكر حقيقة الإسلام، وتجرّد عن الإيمان، تنكّر لوجود الله، وأعلن أنه غير مؤمنٍ بهذه الأمور التي تؤمنون بها.


لهؤلاء حظٌّ من الرّحمة الإلهيّة.. نعم لهؤلاء حظٌّ من الرّحمة الإلهيّة، لهؤلاء كلّفنا بأن نوجه نداء الشفقة.. نداء الرحمة.. نداء العقل.. نداء المنطق.. نقول لهم ما يقوله لنا ربّنا تبارك وتعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ... (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)، ونذكرهم بقوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).


هؤلاء أمرنا الله أن نحاورهم. ولكن بأيّ أسلوب؟ نحاورهم بذلك الأسلوب اللطيف الذي عبّر عنه ربّنا تبارك وتعالى بقوله: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، هؤلاء جميعاً أمرنا أن نجادلهم بالتي هي أحسن؛ أن نحاورهم بالعقل.. أن نحاورهم بالمنطق.. أن نجلس إليهم جلسة هدوءٍ وتدبّرٍ وتأمّل. حبّذا لو أنّهم استجابوا للحوار كما أمر الله.


أم إنّهم ينتظرون داعي الموت؟ وهناك يدرك الفرد منهم أنه عبدٌ، عندما تبرد منه الأطراف وتتحشرج بين حناياه الأنفاس، أيومئدٍ يتذكر الإنسان؟ وأنّى له الذكرى! أيومئذٍ يقول إني تبت الآن؟! لا فائدة من التّوبة وقد انتهت الفرصة، اليوم لديك فرصة أيّها الإنسان فرصة، ونحن عملاً بأمر الله نناديك؛ تعال وفكّر وتأمّل، فأنت جديرٌ بأن تنال من رحمة الله. إذا عدت إلى صوابك، وإذا استيقظ منك عقلك، وتنبه منك فكرك، وصرت تتأمل هذا الكون ورأيت في كل ذرّة من كيانك أنّك عبدٌ... فقد خلقت يوم خلقت دون مشيئتك، وقدّر الله فيك مقاديره دون إرادتك، وستنتهي صاغراً ذليلاً يوم أجلك، شئت أم أبيت، رضيت أم كرهت، أنت عبدٌ. فكن عبداً تقبل على الله تبارك وتعالى باختيارك لتصل إليه بهامة مرتفعة معتزة بزادٍ عظيم وفّقك الله له، ولا تكن عبداً آبقاً تأتي إلى الله وقد اسود وجهك وذلّت هامتك وطأطأت بالذلّ والصَّغار بين يدي الله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)، ألم يقل الله: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).


لذلك لهؤلاء أيضاً نصيبٌ من الرّحمة الإلهيّة أمرنا بأن نعاملهم من خلاله، فنقول لهم ّ: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ). تعالوا إلى حكم العقل، تعالوا إلى حكم العلم، لا تظنّوا أن العلم ما تأتون به من ترّهات؛ العلم مع الحقيقة الإيمانيّة، وبيننا وبينكم مائدة الحوار، تعالوا لنتدارس ونفكّر ونتأمل؛ هل وجد هذا الكون دون مُوجد؟! وهل أنت خلقت بإرادتك؟! وهل أنت ستنتهي بمشيئتك؟! أنت في قبضةِ مَن أنفاسكَ بيدهِ ونبضاتُ قلبكَ تحت سلطانه. تدبّر قبل أن يفوت الأوان.


لهؤلاء جميعاً نذكرهم بقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة