مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 30/10/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 30 / 10 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) ويقول سبحانه: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)، ويقول النبي ﷺ فيما صح عنه: (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمُ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا وَجَدتُ مِنْ حَسَنٍة حَمِدْتُ اللَّهَ، وَمَا رَأيَتُ مِنْ شرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ)؛ صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، فأنت: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).


أيّها المسلمون؛ تمر بنا ذكرى ولادة الحبيب المصطفى ﷺ المحب لنا المتشوق لرؤيتنا؛ إذ قال: "وددت أني قد رأيت إخواننا" فقالوا: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟ قال: "بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض". اشتاق إليكم؛ اشتاق لرؤيتكم قبل أربعة عشر قرناً يودّ لو أنه رآنا. والله إنا لنودّ أن نراه، ونأمل ونرجو صادقين إن شاء الله أن نلقاه على الحوض، وتكتحل عيوننا برؤيته هناك شفيعاً لنا إن شاء الله، ويسقينا من يده الشريفة. صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله.


جديرٌ بنا اليوم أن نجدد معرفتنا بالحبيب المصطفى ﷺ إن لم نكن مفتقرين إلى ذلك. نحن ينبغي أن نحرص الحرص كله على أن نتعرف على سيرة الهادي المصطفى ﷺ بشيءٍ من التعمق والتأمل والتدبر، ذلك أن سيرته صورةٌ عمليةٌ لديننا الذي عليه نحيا وعليه نموت وعليه نبعث إن شاء الله تعالى. جديرٌ بنا أن نتأمل السيرة النبوية الشريفة وأن نتأمل الشمائل الكريمة وأن ندرس السنة المطهرة لأن في كل ذلك هدايةٌ لنا وإنقاذاً لنا وسعادةً لنا وعزاً لنا في الدنيا ونجاةً لنا غداً يوم القيامة.


إلا أن سيرة النبي ﷺ لا تتجلى لنا عظمتها ومعانيها إلا إذا كنا نعلم كيف كان العالم يوم بعث؛ يوم كان غارقاً في الشقاء وبالجهل وبالحروب وبالفساد وبالظلم وبالانحلال وبالعادات السيئة وبالخرافات. جزيرة العرب سادتها الوثنية وانتشرت فيها الخزعبلات والخرافات الكثيرة والترهات. ووجد فيها من كان قد تنصر فيها من العرب إما أفراداً في جزيرة العرب وإما أنهم اعتنقوا النصرانية تبعاً للمنطقة التي كانوا فيها كالغساسنة. وكانت تسود المجتمع العربي آنذاك عاداتٌ سيئةٌ إلى جانب خرافة الوثنية: من حروب وثارات واعتداء القوي على الضعيف، كما يقولون:


ألا لا يجهلنّ أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا


بالإضافة إلى هيمنة القبائل القوية على القبائل الضعيفة؛ تستولي على مائها وعلى البقع الخضراء من مراعيها لأنها أقوى. فالظلم كان سائداً، والميسر كانت منتشراً والربا كان عادياً. وهكذا نجد أن كثيراً من العادات الفاسدة والانحلال والتبرج والزنا وغير ذلك من المفاسد كل ذلك كان منتشراً في المجتمع العربي.


إلا أنه كانت فيهم إلى جانب ذلك عاداتٍ كريمة، عاداتٍ طيبة؛ كانوا يوصفون بالمروءة والشهامة والنجدة وهذه الصفات هي التي أشار النبي ﷺ إلى من يتمثّلها بقوله: ((خِيَارُهُمْ في الْجَاهِليَّةِ خِيَارُهُمْ في الْإِسْلَامِ إِذَا فقُهُوا)). إذا فهموا طريق الحق وسلكوه، أما إذا كانت لديهم تلك العادات الكريمة ولم يعتنقوا هذا الدين فلقد ضلوا الطريق وساءت خاتمتهم.


أما بالنسبة للأمم المجاورة والنائية فلم تكن أحسن حالاً؛ كانت في أسوأ حالةٍ من الفساد والضلال والظلم. فالدولة الرومانية كانت كياناً قائماً على الظلم واستعباد الشعوب، وكان وجودها في هذه البلاد وجود الظالم على أرضٍ ليست له، يستبد بها ويتحكم فيها ويظلم أهلها، فضلاً عن ظلمهم لأبناء بلادهم. وساد في المجتمع الروماني الانحلال والفساد إلى درجةٍ منقطعة النظير وأفاض المؤرخون عن ذلك فيهم.


والمجتمع الفارسي كان أسوأ حالاً فقد سادت فيه عقائد فاسدة. كانوا يعتنقون المانوية والزردشتية والمزدكية؛ وكلها معتقدات ضالةٌ إباحيةٌ منحرفةٌ نشرت فيهم أنواعاً من الفساد الذي لا نعرفه إلا في الغرب اليوم.


هذا كان حال العالم القريب أما ما وراء ذلك فقد كانوا خارج التاريخ؛ أوربة كانت خارج التاريخ جهلاً وتخلفاً وقذارةً وحروباً وتمزقاً، إلى أن تسربت إليهم النصرانية فشاعت فيهم بصورة مشوهة.


في ذلك الظلام الدامس، أشرق النور في الثاني عشر من ربيع الأول في سنة إحدى وسبعين وخمسمئة للميلاد أشرق النور من مكة؛ وولد المصطفى ﷺ، ليكون إيذاناً بانحسار حالة الشقاء والضلال وانتشار نور الهداية هنا وهناك.


ولقد اقترنت سنة ميلاده بحادثٍ خطير؛ فقد استبد الطغيان بأبرهة الأشرم ملك الحبشة فأراد أن يعتدي على الكعبة، ومضى مع جيشه لغزو الكعبة. وعلى باب الكعبة التجأ عبد المطلب جدّ النبي ﷺ إلى الله، واستغاث به فأغاثه الله U. إذ قال: (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُول). أهلكهم على أبواب مكة وانتهى عدوانهم وأذل طغيانهم الذي جاء بهم.


بالإضافة إلى هيمنة الروم على الشمال الغربي من جزيرة العرب حيث الغساسنة، وهيمنة الفرس على الشمال الشرقي منها حيث المناذرة. في ذلك المناخ، كانت ولادة المصطفى إيذاناً بانتشار الهداية بعد الضلال. وكأن حادث هلاك أبرهة الأشرم وجيشه براعة استهلال بولادة المصطفى ﷺ الذي سيبدد ظلمات الجاهلية والكفر والعادات القذرة بنور الهداية الربانية الذي سيبعث به ﷺ.


فكما أهلك الله جيش أبرهة على أبواب مكة، جعل ولادة النبي ﷺ انحساراً لظاهرة الضلالة والجاهلية والعادات السيئة، وسبباً لانتشار الهداية في العالم كله. لذا جديرٌ بنا أن نقف على مشاهد من سيرة المصطفى ﷺ لنكون أوفياء لحبه، ولنجعل من سيرته ﷺ منهاجاً لحياتنا ونبراساً في طريقنا نستضيء به لنستعيد المجد المفقود.


أيها المسلمون؛ مع ذكرى ولادة النبي ﷺ نجد أن العالم يضجّ سخطاً واستنكاراً لما يقوم به طاغية فرنسا. أقول: إن النبي ﷺ أسمى وأعلى وأشرف في سيرته وهديه ونصاعة أخلاقه من أن ينال منه ذلك القزم أو غيره، وما ينبغي أن تقودنا ردود الأفعال إلى تصرفاتٍ تعطيه الحجة ضد الإسلام والمسلمين.


أقول: إن كثيراً من ردود الأفعال هي من صنعهم كما أن الأفعال من صنعهم. الفعل وردة الفعل من صنعهم لتسويغ وتبرير الهجوم القذر على ديننا وعلى إسلامنا؛ على أن ديننا أسمى وأعظم من أن ينال منه هذا أو ذاك من طغاة الأرض مهما بلغ شأنهم.


إن هذا الهجوم لا ينبغي أن يدفع بنا إلى ردود فعلٍ طائشة، بل ينبغي أن يزيدنا حرصاً على التعرف على سبب سعادة هذه الأمة ومجدها وارتفاع رايتها في التاريخ. كنا نكرةً في التاريخ، وإنما عرفنا وانتشر ضياء أمتنا وحضارتنا في أرجاء الأرض من الصين إلى الأندلس بل وصل إلى أمريكا؛ أقول: بهدي الرسول ﷺ. فجديرٌ بنا أن نعود إلى ذلك الهدي فنتمسك به لنستعيد مكاننا في التاريخ مرةً أخرى. ولا ينبغي أن تؤثر فينا تلك التصرفات الرعناء التي يتصرفونها. إن تلك التصرفات لا تزيدنا إلا اعتزازاً بالنبي ﷺ وتمسكاً بهديه.


إن هدي النبي ﷺ وإن اسمه الكريم الشريف السامي وسيرته العطرة لن تنال منها تلك السفاهات السوقية التي تصدر هنا وهناك. ينبغي أن نكون نتيجة هذا الذي نسمعه ونتيجة هذا الذي يبلغنا من هنا وهناك أن تزيدنا حرصاً على معرفة سيرة نبينا والتمسك بهديه؛ لأن هديه سبب عزتنا ولأن ترك هديه سبب شقائنا ومذلّتنا.


عودوا إلى قوانين التاريخ لتجدوا أنه بمقدار ما نتمسك بهديه يرتفع شأن أمتنا، وبمقدار تخلينا ينهار شأننا وتنالنا الذلة والمهانة. ألم يقل سيدنا عمر: (نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله).


أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ويعزنا بالتمسك بهديه إنه سميع مجيب.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي