مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 02/10/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 2 / 10 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) وقال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ويقول النبي: ﷺ: (طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ) وقال النبي ﷺ  :(مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ).


أيّها المسلمون؛ حض ديننا على طلب العلم وبنى معرفة الإنسان لعقيدته وعباداته ومعاملاته على قاعدة العلم والمعرفة، ولذلك أوجب طلب العلم وفرضه كما رأينا في الحديث الصحيح. ومنع ربنا تبارك وتعالى أن نتجه إلى التعرف على الأحكام إلا من طريق العلم، فقال سبحانه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تتبع ما ليس لك به علم، وقد أنعم علينا بوسائل المعرفة والعلم، فقال سبحانه: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).


العلم مفتاح الهداية وسبيل المعرفة ومفتاح الحضارة، وعلى قاعدة العلم انطلق الإسلام. وإن أردنا أن نعرف الإشارة الواضحة إلى أهمية العلم، فلننظر إلى أول أياتٍ نزلت على قلب النبي ﷺ، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).


جعل مفتاح أو بداية طريقنا إليه وإلى الالتزام بهديه (اقْرَأْ) وجمع رموز المعرفة والعلم في هذه الأيات القصيرة؛ العلم، القراءة، القلم طبعاً مفتاح الكتابة. بالعلم انطلق الإسلام وعلى هذه الركيزة، قال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طالب الناس أن يصلوا إلى هذا الدين من بوابة العلم، وليس من بوابة التقاليد والتبعية. عاب على الجاهليين الذين قالوا: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) عاب عليهم ذلك وبين أن عليهم أن يسلكوا طريق المعرفة وطريق العلم ليصلوا من خلاله إلى الهداية والرشاد.


نعم أيها المسلمون، انطلق المسلمون من هذا المبدأ ومضوا ينشرون هداية المولى سبحانه وتعالى على هذه القاعدة. أمةٌ أميةٌ كانت في غاية التخلف، كانت تعاني من الجهل ومن الحروب المتواصلة ومن التمزق والتشتت والتشرذم، وعلى هدي الله U انطلقت من جزيرة العرب تلك الأمة الأمية التي كانت تعاني من التخلف، لتنشر الحضارة الإنسانية في أرجاء الأرض. وعندما انطلق المسلمون ينشرون العدل والهدى في أرجاء الأرض، كانت أوروبة والعالم الآخر غارقين في مستنقعٍ من أحط أنواع الجهل والتخلف. كان الإسلام سبباً في نشر المعرفة وكانت معاهد بغداد ودمشق منهلاً للعلم يفد إليها الناس من هنا وهناك لكي يتعلموا العلوم المختلفة الدينية والدنيوية.


والمسلمون كانت لهم منهجيةٌ في العلم، فهم لم ينطلقوا انطلاقةً فوضويةً إلى المعرفة، بل بنوا مسيرتهم على منهجية. هذه المنهجية اختصرت في مبدأ يتألف من جملتين: "إذا كنت ناقلاً فالصحة أو مدعياً فالدليل".


وسأبدأ اليوم من الشق الأول من هذه القاعدة: "إن كنت ناقلاً فالصحة"؛ أي إذا كنت تنقل كلاماً أو واقعةً؛ حدثاً، فإن عليك أن تتحرى صدق الخبر المنقول. واقتضى ذلك منهم أن يرسموا منهجاً دقيقاً يستند إلى دقة الوسيلة ويستند إلى أخلاقيات هذه الأمة في طريقة نقل الخبر. وهذا ما يلخصه تعريف الحديث الصحيح: وهو (الذي اتصل إسناده بنقل العدل الضابط ضبطاً تاماً عن مثله من أوله إلى منتهاه من غير شذوذٍ ولا علةٍ قادحة) كلامٌ علمي.. كلامٌ دقيق..


هناك سندٌ وهناك شرطٌ في رواة هذا السند؛ أن يكونوا على درجةٍ من الأخلاق والاستقامة بحيث يكونون موضع الثقة المطلقة. وأن يكونوا على درجةٍ من الضبط؛ أي الحفظ وحسن أداء العبارة أو الحدث للآخرين. من خلال هذه القاعدة ومن خلال هذا المنهج، استطاع المسلمون أن يضعوا قواعد لنقل مروياتهم. فكانت هذه المرويات إما أن يحكم عليها بالضعف ومن ثم تُرَدّ، وإما أن يحكم عليها بالقبول. ودرجات القبول أيضاً ليست واحدة؛ فهناك الصحيح وهناك الحسن وهناك الضعيف، وهكذا.


هذا المنهج به استطعنا أن نصل ما بيننا وبين رسول الله ﷺ بسندٍ دقيقٍ صحيحٍ من فم الراوي إلى أذن السامع. ولا بد أن يكون كل من الراوي والسامع على درجةٍ من الأمانة والاستقامة، والوعي والضبط وهكذا، حتى وصل إلينا حديث المصطفى ﷺ وجمعت الأحاديث كما تعلمون. ولا يقبل خبرٌ إلا بسند، ولا بد من نقد هذا السند رجلاً رجلاً، ولا بد أن يكون هذا الرجل موضع ثقة، وإلا قد يكون الحديث موضع ردٍّ رفض.


هذا الذي قام به المسلمون في النقل؛ تطبيقاً لقاعدة: "إذا كنت ناقلاً فالصحة". خضع لهذا الأمر حديث النبي ﷺ ووقائع السيرة الشريفةن ووقائع التاريخ الإسلامي. التزموا بذكر السند ونحن إزاء السند إما أن نقبل الخبر وإما أن نرده. هذه المنهجية هي التي التزم المسلمون بها في المنقول. والمنقول إما أن يكون أخباراً وأحاديث، وإما أن يكون وقائع وأحداثاً.


وصل إلينا ديننا عبر هذه القناة، واستطعنا أن نوثق - وهذا ما يعترف به المنصفون من الغربيين - بأن هذه الأمة تمتاز بشيءٍ من حقها أن تفتخر به؛ وهو ضبط النصوص والأحداث بسندٍ متصلٍ دقيق. ولذلك فنحن مطمئنون لتاريخنا، مطمئنون لأحاديث نبينا ﷺ. ولذلك تجد أن أعداء الإسلام يصبون جام حقدهم على أئمة الحديث، ولا سيما أصح الأئمة إسناداً وأدقهم إخباراً؛ الإمامين الجليلين الإمام البخاري والإمام مسلم رضي الله عنهما وجزاهم الله عن الأئمة خيراً.


نشأ عن هذه القاعدة علوم: علم مصطلح الحديث أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر: منهج النقد في الحديث، علم الرجال ما من رجلٍ روى حديثاً فأكثر إلا وله ترجمة؛ أي بيان سيرته الذاتية: حياته، ممن تلقى، من تلقى عنه، تطورات حياته أخلاقه.. وعلم الجرح والتعديل، علم الرجال، علم العلل. هذه علومٌ وغيرها من العلوم التي تفرعت عن علم الحديث أو علم تحقيق الخبر "إذا كنت ناقلاً فالصحة". فسروا هذا القاعدة بهذه العلوم التي أتحدث عنها.


أيها المسلمون، نحن نعاني اليوم من فاقةٍ وفقرٍ إلى هذا النوع من التحقيق والتدقيق. اليوم غدت وسيلة المعرفة عندنا الشبكة العنكبوتية، أو ما يسمى بالنت، ووسائل التواصل؛ تضخ لنا من الأخبار والكثير من الكلام ومن الادعاءات. نحن نقول: إن هذه الوسائل جيدة من حيث هي؛ والوعاء لا يحكم عليه من حيث هو وعاء، ولكن يحكم عليه من حيث مضمونه؛ من حيث ما فيه. الوعاء قد يوضع فيه الشراب العذب الزلال الطاهر النقي، وقد يوضع فيه السم الزعافن أو قد يوضع فيه النجس والخبيث. هذه الوسيلة يمكن أن تكون وسيلةً لنشر المعارف الطيبة والأحاديث النافعة والنصائح الرشيدة، ولكنها غدت اليوم تنقل ذلك، وتنقل أضعافَ أضعاف ذلك من خبيث الأشياء؛ من الأكاذيب والأراجيف والترهات والافتراءات التي يبتكرها أناسٌ يفتقرون إلى الحد الأدنى من الأخلاق، أو إلى الحد الأدنى من الانضباط بالقواعد العلمية والأخلاقية.


ولذلك، غدت هذه الوسيلة وسيلةً خطيرةً من أصغى إليها كان كحاطب ليل. نحن اليوم بحاجةٍ إلى منهج نقدٍ نُخضع هذه الوسيلة لهذا المنهج، فلا نقبل منها إلا ما كان معروفاً عمن ينقل ومن المتحدث أو من المخبر؛ فلا نقبل إلا ما كان صافياً عذباً صحيحاً سليماً. وهذا ليس من السهولة بمكان في وقتٍ تضخ فيه هذه الوسيلة الكثير الكثير من المفاسد والفجور والأخبار الكاذبة. وللأسف، يصغي الناس إليها وكأنهم يصغون إلى كتاب الله أو إلى صحيحي البخاري ومسلم..


(هكذا قالت الجزيرة..!) (هكذا قالت الوكالة الفلانية ..!) (هكذا نقل التلفزيون الفلاني..!) عجيب!


هل غدا هؤلاء موضع ثقتك؟! هل غدا هؤلاء موضع طمأنينتك؟! أين عقلك وأين وعيك؟ أين تحرّيك للصحيح من الباطل؟ والنبي ﷺ يقول: (كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ). ما ينبغي أن نكون أغبياء لدرجة قبول الأخبار على عواهنها دون أن يكون لدينا منهجٌ سليمٌ نتحرى فيه الصحيح من الباطل، الصادق من الكاذب، السليم من العقيم، مما قد تضخه إلينا هذه الوسائل، سواء كانت وسائل التواصل أو الشبكة العنكبوتية من خلال المواقع أو حتى وسائل الإعلام.


نحن بحاجةٍ إلى منهج نقدٍ يحفظ لنا سلامة الخبر وسلامة المنقولات، وتجد أن هناك من الناس من يبني على خبرٍ ليس له أصل؛ هو كذبٌ بكذب وافتراءٌ بافتراء، ليبني عليه مواقف ويبني عليه أحكاماً ويبني عليه أشياء، وللأسف، تدل على مدى افتقارنا لوعيٍ ونقدٍ سليمٍ لما يرد لنا من أمور وغير ذلك.


نحن اليوم ينبغي أن نتعامل بحذر ٍمع الشبكة العنكبوتية ومع وسائل التواصل وأن لا نقبل منها إلا ما كان قد عرفنا صفاءه ونقاءه. وهذا يتطلب منهجاً سليماً ينبغي لعلمائنا أن يضعوا قواعده ويرسموا منهجه. أسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك.


أما الشق الثاني من القاعدة، فلن يتسع له المقام. أرجئ الحديث عنه إن شاء الله إذا قدر الله لي إلى موعدٍ آخر.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة