مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/11/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 29 / 11 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 29 / 11 / 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ويقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَم۪يعاً وَلَا تَفَرَّقُواۖ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ اِذْ كُنْتُمْ اَعْدَٓاءً فَاَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَاَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه۪ٓ اِخْوَاناًۚ وَكُنْتُمْ عَلٰى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَاَنْقَذَكُمْ مِنْهَاۜ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللّٰهُ لَكُمْ اٰيَاتِه۪ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ووجه النبي ﷺ الخطاب إلى وفد المدينة المنورة في بيعة عقبة الأولى فقال: (بايعُونِي علَى أن لا تُشْرِكُوا باللهِ شيئًا ولا تَسْرِقُوا ولا تَزْنُوا ولا تقتُلُوا أولادَكُم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفتَرُونَهُ بينَ أيدِيكُم وأرجلِكُم، ولا تعْصُوا فِي معروفٍ، فمَنْ وَفَّى منكُم فأَجْرُهُ على اللهِ، ومَنْ أَصَابَ مِن ذلِكَ شيئًا فعُوقِبَ بهِ في الدُّنْيَا فهو كَفَّارَةٌ، ومن أصابَ مِن ذلكَ شيئًا ثم ستَرَهُ اللهُ فهو إلى اللهِ، إن شاءَ عفا عنهُ، وإن شاءَ عاقَبَه).


أيها المسلمون؛ ضمن دراستنا لسيرة الحبيب المصطفى ﷺ، نقف فنتأمل مشهد الهجرة النبوية الشريفة، وما سبقها وما تلاها. ونحن اليوم أمام مقدمات الهجرة النبوية الشريفة، أمام انطلاق الدعوة الإسلامية إلى خارج مكة المكرمة؛ فقد أمضى النبي ﷺ عشر سنواتٍ قاسيةٍ، عانى هو وأصحابه فيها من القهر والاضطهاد والقمع والتعذيب والإساءات الكثير الكثير. ثم إن النبي ﷺ توجه بدعوته إلى الوفود القادمة إلى مكة المكرمة بقصد الحج أو بمقاصد أخرى، فكان البعض منهم يردّونه ويعرضون عنه، والبعض كان يوادعه ويعتذر منه.


إلى أن لقي رهطاً من يثرب - المدينة المنورة - فحياهم وقال: (ممَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: من الْخَزْرَجُ قَالَ: أَمِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَفَلَا تَجْلِسُونَ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَجَلَسُوا مَعَهُ) فأخبرهم أنه نبي الله إلى هذه الأمة، ودعاهم إلى توحيد الله، ونبذ عبادة الحجارة التي لا تضر ولا تنفع، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق والخير والهدى والرشاد. فتأملوا فيما بينهم وقالوا: (تعلمُنّ إنه للنبي الذي توعدتكم به اليهود إذ قالوا: (إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ نَتَّبِعُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ) فلا يسبقُنّكم إليه). ووجدوا فيما دعاهم إليه ما اقتنعوا به، ونال القبول في عقولهم وقلوبهم فأسلموا. ثم وعدوه في العام القادم أن يأتوا ومعهم إخوانهم من أهل المدينة المنورة. وبعد عامٍ اجتمع النبي في العقبة مع رهطٍ من المدينة المنورة، فيهم وجوه المدينة المنورة؛ منهم أسعد بن زرارة وعبادة بن الصامت وأبو الهيثم بن التيهان وآخرون، فعرض عليهم الأمر، وكانوا على بينةٍ مما عرض عليهم، لأن الوفد الذي كان قد لقيهم النبي ﷺ قد بشروا بدعوته. فما كان منهم إلا أن تقبلوا من النبي ﷺ وأسلموا، ثم قال لهم: (بايعُونِي علَى أن لا تُشْرِكُوا باللهِ شيئًا ولا تَسْرِقُوا ولا تَزْنُوا، ولا تقتُلُوا أولادَكُم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفتَرُونَهُ بينَ أيدِيكُم وأرجلِكُم، ولا تعْصُوني فِي معروفٍ) فبايعوه على ذلك.


ثم أرسل معهم شاباً هو مصعب بن عمير ليتولى تعليمهم الإسلام وتعليم من يتقبل هذه الدعوة. ومضوا إلى المدينة المنورة.. مضى عامٌ ليعودوا ومعهم مصعب بن عمير؛ مضوا اثنا عشر رجلاً وعادوا إلى مكة في العام الذي يليه أكثر من سبعين ما بين رجلٍ وامرأةٍ ليبايعوا النبي ﷺ بيعة العقبة الثانية.


أقف عند هذا المشهد وأتأمل: ماذا تضمنت بيعة النبي ﷺ في العقبة للمرة الأولى؟! تضمنت خلاصة الإسلام؛ الدعوة التي يدعوا إليها ديننا، تضمنت خلاصة هذا الدين: توحيد الله، تصحيح العقيدة. وتصحيح العقيدة يقوم على ركنين أساسيين: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر ثم الإيمان برسول الله ﷺ، إذ لبوه فيما دعاهم إليه، ثم ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولايأتوا ببهتانٍ يين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا رسول الله ﷺ في أمرٍ من الأمور التي فيها الهدى والرشاد؛ في معروف: أي ما تعارف الناس على قبوله و تقبلته الفطرة الإنسانية السليمة.


هذه هي دعوة الإسلام، وإلى هذا دعا رسول الله ﷺ وفد المدينة المنورة، وعلى هذا بايعوه، وعلى هذا مضوا لينفذوا ما بايعوه عليه.


والآن نتوجه إلى المخالفين: تُرى ماذا تنقمون على الإسلام من أمر؟! أتنقمون عليه في دعوته إلى توحيد الله؟! أتريدون عبادة الأشخاص والحجارة والأشجار والشمس والقمر؟! أتريدون أن تضيعوا في متاهة عبادة المخلوقات، في ضلالةٍ ما بعدها ضلالة؟! ثم تضمنت هذه البيعة دعوةً إلى عدم السرقة؛ إلى كفّ اليد عن أن تمتد إلى أموال الناس ظلماً وعدواناً بغير حق. أتريدون أن تشيع في المجتمع السرقة والغصب والاعتداء على الحقوق وسلبها وأكل أموال الناس بالباطل؟!


دعوةٌ إلى عدم الزنا؛ إلى طهر المجتمع.. إلى بناء العلاقة الأسرية على أسمى صورةٍ يمكن أن ترقى إليها صورة المجتمع الإنساني؛ العلاقة الطاهرة بين الرجل والمرأة، بحيث لا تكون إلا في إطار الحياة الزوجية الطاهرة، التي هي المنبت الصحيح لوجود الإنسان.. لنشأة الإنسان.. لتربية الإنسان. أم إنكم تريدون الفوضى في علاقة الرجل والمرأة، والخيانة والفساد والانحراف ونحو ذلك؟! قال: (ولا تقتلوا أولادكم) القتل - سواءً كان للقريب أم للبعيد - نهى عنه ديننا وحرمه إسلامنا. والقتل إلا يأتي إلا بالقتل، والجريمة لا تأتي إلا بالجريمة. والمجتمع النقي عن الإجرام يسمو وتقوم العلاقة بين أبنائه على المحبة والتعاون والخير والثقة. نعم؛ ثم بعد ذلك، ولا نعصي رسول الله ﷺ بما يأمرنا به من خيرٍ.. بما يأمرنا به من معروفٍ.. بما يأمرنا به من دعوةٍ إلى سموّ الأخلاق، وإلى المحافظة على سلامة هذا المجتمع.. وسلامة هذه الأمة.. وسلامة هذه البلاد. بهذا أمرنا رسول الله ﷺ.


ماذا ينقم على الإسلام المخالفون له الذين يعترضون على الدعوة الإسلامية؟ ما ذا يجدون فيه مما ينتقدونه وينقمون عليه؟! أتريدون أن تعود أمتنا إلى الجاهلية؟!


لما تمسكت بهذه المبادئ التي دعا إليها النبي ﷺ سمت أمتنا واتفقت كلمتها بعد خلاف واجتمع شملها بعد تمزق، ومضت تنشر العدل والخير والهدى في أرجاء الأرض، فأنقذت الشعوب من قهرٍ وظلمٍ وبغيٍ وعدوانٍ.. أنقذت الشعوب من عبادة العباد، وسمت بهم إلى عبادة خالق العباد، جل شأنه. فارتفعت راية هذه الأمة خفّاقة فيما بين المشرق والمغرب. اجتمع شمل هذه الأمة على الخير والهدى. صار للأمة مكانةٌ رفيعة في صفحة التاريخ، لا ترتقي إليها مكانة ولا يسمو إليها شعبٌ من الشعوب.


نعم؛ هذه الدعوة وصلت بأنوارها وعدالتها وخيرها وبفضلها إلى الصين شرقاً وإلى الأندلس غرباً. ولا تزال دعوتنا هذه تنال القبول في قلوب الناس يوماً بعد يوم. نعم؛ هذه دعوتنا، لكننا عندما تخلينا عنها تخلت عنا. تُرى ماذا قدم لنا الآخرون؟! أتريدون منا أن نسير خلف الغرب حيث تقدمت الآلة وتخلف الإنسان، حيث ارتقت الآلة ولكن هبط الإنسان إلى مستوى البهيمة.. إلى مستوى التخلف.. إلى مستوى الجريمة.. إلى مستوى التمزق؟! ها هي ذي الأسرة في الغرب قد تمزقت وانهارت، وها هي ذي الجريمة تفشت في أرجاء المجتمع الغربي والمجتمعات الأخرى. انتشرت الجريمة.. انتشر الاغتصاب.. انتشرت السرقة.. نعم؛ قد يرى البعض مظاهر خارجية للأمانة خوفاً من عدسات المراقبة.. خوفاً من سطوة الأمن.. ولكن لا لطهارة نفوسهم.. فنفوسهم أحطّ من أن تكون نقيةً أو أمينة.


وأنا هنا أتكلم عن المجموع لا عن الجميع. هناك منهم من يشمئزّ من أوضاع المجتمع الغربي.. ونحن نشفق على وضعهم.. نشفق على الأطفال المشردين الذين يعيشون مع أبٍ دون أم، أو مع أمٍ دون أبٍ، أو بدون أبٍ ولا أمٍ، يعيشون في مداجن. نعم؛ هي محاضن أشبه بمداجن؛ لا يربَّون، وإنما ترعاهم هيئة الرعاية فيهم بمقدار الرواتب التي يتقاضونها، وقد يكون هنالك من الإهمال ما يجعلهم عرضةً لكثيرٍ من المساوئ والأمراض.


إلام يدعونا هؤلاء؟! إلى أن نسير خلف الغرب حيث بلغ الاسترقاق فيما ذكر بيانٌ لوزارة الخارجية الأمريكية لهذا العام أنه بلغ عدد الرقيق الأبيض أكثر من واحدٍ وعشرين مليوناً، أكثر من نصفهم إناثٌ لتجارة الجنس أو لتجارة الأعضاء. أصبح الإنسان قطع تبديلٍ يتاجر بجسده من أجل أن يقدم جسده قطع تبديل (إكسسوارات) لأجساد أناسٍ يشترون أعضاءه ثم يرمى ويقتل. نعم؛ هذا موجودٌ في الغرب. تفككت الأسرة، والآلاف من النساء كل سنة يقتلن على يد أزواجٍ أو يد الشريك فيما يسمونه، أو الأزواج يُقتلون على يد الشريكات كما يسمون. هذا هو المجتمع الراقي الذي تريدون أن نسير خلفه؟! أهذه هي الأمم التي تحضرت فيها الآلة، وتخلف فيها الإنسان وانهار فيها المجتمع.


نحن نبحث عن طريق الهداية.. عن طريق السعادة.. عن طريق العزة.. عن طريق الكرامة.. من خلال هذا الدين. إن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها؛ عودةٌ راشدةٌ إلى هذا الإسلام.. عودةٌ راشدةٌ إلى توحيد الله.. عودةٌ راشدةٌ إلى العقيدة الصحيحة المبنية على الدليل والبرهان.. المبنية على قواعد العلم والدليل. ثم بعد ذلك استقامةٌ وطهرٌ وعلاقةٌ نقيةٌ في مجتمعنا من أن تمتد يدٌ إلى الحرام، أو أن تقام علاقةٌ فيما بين رجلٍ وامرأةٍ على غير وجه صحيح.


نعم؛ إلى هذا دعانا الإسلام، وعلى أن نكون على الهدى والرشاد الذي تركنا عليه نبينا ﷺ.


أسأل الله تعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يجمع كلمتنا على الحق والهدى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة