مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/08/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 28 / 8 / 2020

أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى ٱلْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَٰفُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ* فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ). وروى البخاري عن النبي ﷺ أنه عندما قدم المدينة المنورة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم: (ما هذا؟) قال اليهود: هذا يومٌ صالح، يوم نجى الله فيه موسى من فرعون وأهلك فرعون، فصامه موسى ونصومه، فقال النبي ﷺ: (أنا أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).


أيها المسلمون، هذا المشهد يرشدنا إلى عبرٍ ينبغي أن نتأملها.


المعنى الأول الذي يجب أن نقف عنده؛ أن الأنبياء كلهم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام، إلى نوحٍ وإلى إبراهيم وإلى سيدنا وحبيبنا محمدٍ ﷺ؛ كل هؤلاء الأنبياء رسلٌ من عند الله تعالى بعثهم الله U بالحق والهدى، وكلهم يجب الإيمان بهم. وقد بيّن ربنا تبارك وتعالى أنه لا فرق بين واحد وآخر من حيث النبوة فقال: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ولا يصح إيمان المؤمن ما لم يؤمن بأنبياء الله تعالى كلهم كما وصفت. كلهم أخوة بعثوا بالحق والهدى، وكلفوا بالدعوة إليه.


الأمر الآخر الذي نقف عنده؛ أن ارتباط الأحداث بالزمان والمكان يكسب ذلك الزمان وذلك المكان أهميةً وخطورةً وشأنًا بمقدار أهمية وخطورة وشأن ذلك الحدث. فحدثٌ وصفه كتاب الله تعالى في مواضع شتى بنجاة موسى عليه الصلاة والسلام من الطاغوت فرعون وإهلاكه لفرعون؛ حدثٌ عظيم انتصر فيه الحق على الباطل، وأزهقَ الباطل وبقي عبرةً في المتحف الفرعوني كما قال تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).


أجل؛ هو عبرة لكن هذه العبرة ارتبطت بزمان؛ هو يوم العاشر من محرم فاكتسب يوم العاشر من محرم أهميةً بمقدار أهمية ذلك الحدث وخطورة ذلك الحدث. ولذلك كان جديراً بأن يحتفى بتلك المناسبة الزمانية كل سنة لأهمية ما جرى في ذلك اليوم. صام بنو إسرائيل تبعاً لسيدنا موسى والنبي ﷺ يقول: (أنا أولى بموسى منهم). أجل لأن النبي ﷺ نبي وموسى عليه الصلاة والسلام نبي. صام النبي ﷺ عاشوراء، وأمر بصيامه، إلا أنه ندبنا إلى أن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده تميزاً عن اليهود ومخالفةً لهم.


وإذا كانت المناسبات الزمانية أو المكانية تكتسب أهميةً بمقدار أهمية الحدث الذي جرى فيها، فإن هذا أصلٌ شرعيٌ نجده في هدي النبوة. النبي ﷺ احتفى بجبل أحد عندما مرّ به فقال: (هذا أحد جبلٌ يحبنا ونحبه) نسب المحبة إلى الجبل الأصم، لكنه لم يكن أصم. كان يحتضن في أحشائه سبعين شهيداً من أصحاب رسول الله ﷺ، قضوا على سفوحه يوم غزوة أحد فداءً وتضحيةً للدعوة الإسلامية وللنبي ﷺ. فاستحق جبل أحد أن يحبه النبي ﷺ وأن يشير إليه، وكلما مر منه نظر إليه نظرة حب ونسب المحبة إليه كما أنه ﷺ قال: (جبل يحبنا ونحبه) أحبه النبي  ﷺوأحب الجبل النبي  ﷺوأصحابه.


وعندما مر النبي  ﷺبالحِجر؛ ديار ثمود قوم صالح الذين أهلكهم الله U قال للصحابة الكرام: (لا تدخلوا ديار الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم) أي متعظين معتبرين. ثم إن النبي ﷺ قنع رأسه أي غطى رأسه، ومر مسرعاً حتى تجاوز الوادي الذي فيه ديار ثمود.


وشتان بين أحد وديار ثمود!


وإذا كانت عبادة الحج فيها معانٍ فهي كلها إحياءٌ لذكرياتٍ ترتبط بسيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما الصلاة والسلام زمانياً ومكانياً.


إذا كان الحدث يكتسب أهميةً وإذا كانت تنعكس هذه الأهمية على الزمان أو المكان الذي جرى فيه ذلك الحدث، فإن من أعظم أحداث التاريخ على الإطلاق ذكرى مولد فخر الكائنات سيد البشرية الرحمة المهداة سيدنا محمد ﷺ. كيف لا؟! وميلاده كان إرهاصاً للبعثة النبوية التي شملت البشرية كلها بأنوارها وهديها قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). فكانت ولادته ﷺ الحدث الأهم الذي يبشر وينبئ بالبعثة النبوية المباركة التي كانت إنقاذاً للبشرية كلها، فإذا وجدت أنواراً تشع في مشرق الأرض أوفي مغرب الأرض بنور الهداية، فما هي إلا أثرٌ من آثار ولادة المصطفى وبعثته ﷺ.


ومن عجبٍ أن ينكر علينا خوارج العصر ومبتدعته احتفاءنا واحتفالنا بذكرى مولد المصطفى ﷺ! جهلاً منهم بما أرشدنا إليه النبي ﷺ، وبالأصل الشرعي الذي نستند إليه باحتفائنا واحتفالنا بالمناسبات الزمانية التي ترتبط بأحداثٍ جليلة. إلا أن ثقافتهم للأسف لا تسعفهم في معرفة ذلك. عجيب شأنهم!


وماذا في الاحتفال بمولد النبي ﷺ غير ذكر شمائله وسيرته وهديه والدعوة إلى اتباع نهجه ﷺ؟ ماذا في الاحتفال بذكرى مولد النبي ﷺ إلا مدحه والثناء عليه؟  وهو أمرٌ أقره النبي ﷺ وابتهج به؛ أما قدم بردته لسيدنا كعب بن زهير عندما وقف يمدح النبي ﷺ معتذراً؟ أما أثنى على سيدنا حسان بن ثابت عندما أنشد الشعر في مدحه عليه ﷺ؟ أما مدحه عظيم شهداء يوم تبوك سيدنا عبد الله بن رواحة هو وسيدنا جعفر وزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم؛ أما مدحه عبد الله بن رواحة بشعرٍ من أجمل ما مدح به النبي ﷺ؟ ماذا ينكرون علينا؟ أينكرون علينا أن نستذكر سيرته وهديه وأخلاقه وشمائله؟ أصبح الفتى منهم وللأسف يعرف عن أرباب الفن الساقط أكثر مما يعرفه عن سيدنا رسول الله ﷺ وأصحابه. يعرف عن لاعبي الكرة - أفيون الشعوب في هذا العصر – أكثر مما يعرفه عن النبي ﷺ وأصحابه بينما هو على مقربة من مسجد النبي ﷺ ومن الكعبة المشرفة.


ينكرون علينا ذلك! أما يجدر بهم أن يعودوا إلى رشدهم؟!


وبعد أيها المسلمون؛ فإن هذه الذكرى ترتبط بها ذكرى أليمة. لعلها من أشد أحداث الصدر الأول إيلاماً لكل مسلم؛ إنها استشهاد سيدنا الحسين t. ولا شك أن من أشد المنكرات ومن أفظع الجرائم جريمة قتل سيدنا الحسين t. ننكرها عليه أشد الإنكار، وننكرها على من أمر بها، وننكرها على من رضي بها؛ كل هؤلاء مسؤولون أمام الله U غداً يوم القيامة.


إلا أننا نقول: ما قاله ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ونقول ما قاله تعالى: (كُلّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة) فما ينبغي أن تستغل تلك الحادثة التي جرت في الصدر الأول قبل أكثر من 1400 سنة اليوم لإثارة الشقاق بين فئات المسلمين، وإثارة مشاعر الكراهية بين فئاتهم. بل ينبغي أن نمسح من قلوبنا مشاعر الحقد التي أراد اليهود وغير اليهود أن يثيروها في قلوبنا تجاه بعضنا، ويمزقوا هذه الأمة إلى فئاتٍ شتى متناحرة.


أسأل الله أن يجمع شمل أمتنا على الحق والهدى، وأن يزيل مما بيننا أسباب الفرقة والخصام.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة