مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/02/2020

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 28 / 2 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 28 /  2 / 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ للبَشَرْ) ويقول سبحانه: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ويقول سبحانه: (فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: سألتُ رسول الله ﷺ عن الطاعون فأخبرني أنه: ((عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين)) وروى البخاري عن النبي ﷺ أنه قال في الطاعون: ((إذا سمعتم الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض، وأنتم فيها، فلا تخرجوا منها)).


أيها المسلمون؛ يكثر الحديث في هذه الأيام عن المعارك الطاحنة التي تجري بين جيشنا الباسل وقوى البغي والعدوان من العصابات الإرهابية وحاضنتها الطاغية في تركيا. وإلى جانب هذا الحديث، حديثٌ قد استولى على اهتمام الناس عن جائحتين؛ إحداهما مرضّ من الأمراض السارية الخطيرة يسمى الكورونا والثانية آفة الجراد.


وسنبدأ الحديث عن الجائحتين. أما عن المرض الساري؛ ما يسمى بمرض الكورونا، فالنبي ﷺ تحدث عن الأمراض السارية، وديننا يأمرنا باتخاذ كل أسباب الوقاية من الوقوع في هذه الأمراض. النبي ﷺ قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) ولكنه قال بعد ذلك: ((وفر من المجذوم فرارك من الأسد)). وشرع الحجر الصحي؛ شرعه قبل أربعة عشر قرناً عندما فقال ﷺ: ((إذا سمعتم الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض، وأنتم فيها، فلا تخرجوا منها))، لئلا ينتشر ويتفشى.


وهو نوعٌ من أنواع البأس الذي يمكن أن يصيب الأمم بسبب انحرافها؛ إذا كانت من الأمم المنحرفة أو الضالة. لأن الله سبحانه تعالى أشار إلى هذا المعنى وقال في كتابه الكريم: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ). وهذا من البأس.. من الضر.. من الألم الذي يبعث في النفوس حالةً من الخوف والتوجس بل الفزع. وأنتم تسمعون وترون أثر ذلك في أنحاء العالم، حيث في كل يومٍ نسمع عن انتشاره في بلدٍ  وفي آخر.


والاحتراز منه يكون بالنظافة.. يكون بالوقاية.. يكون باتخاذ التدابير الصحية التي شرعها ديننا. فما ينبغي أن نقصر في ذلك؛ أن نغسل يدينا قبل الطعام وبعده، وأن نكون دائماً على احترازٍ من انتشار هذه العدوى بالوسائل الصحية التي يمكن أن نُوجَّه إليها من قبل أصحاب الاختصاص. نعم؛ علينا أن نتخذ كل الإجراءات اللازمة. وديننا دين النظافة والطهارة.


 إذا أردت أن تمثل بين يدي الله U فعليك أن تتوضأ، وإذا ما قضيت حاجتك فعليك أن تنظف نفسك. ولقد يحل العذاب على الإنسان في قبره لعدم احترازه من نجاسته، فكيف بعدم احترازه من أسباب الآفات السارية والضارة التي تنشر الهلاك في المجتمع. علينا أن نكون على احترازٍ ووعيٍ بالدرجة اللائقة المناسبة لسلامة صحتنا وصحة أبناء مجتمعنا.


أما عن الجراد؛ فلقد كانت إحدى الآيات التي أيد الله بها سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام في مواجهته للطاغية فرعون. أما قال ربنا تبارك وتعالى: (فأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ)! فكانت إحدى وسائل قهر فرعون وكبريائه، وآيةً من الآيات التي تذيق فرعون لوناً من الهوان والذل. نعم؛ هذا أمرٌ معروف وإذا ما ابتلينا به، فإن علينا أن نتخذ الإجراءات التي تشرع في هذا المجال. ولقد لطف الله U ببلدنا. ففي العام المنصرم الماضي صرف الله عنا جائحة الجراد، وفي هذه السنة صرف الله عنا - عن بلاد الشام - جائحة الجراد. ليس بمهارةٍ منا وإنما بلطفٍ إلهيٍ وكرمٍ أكرمنا به سبحانه وتعالى.


وبعد؛ فلقد أظلنا شهر رجب. ورجب أحد الأشهر الحرم التي قال عنها ربنا جلّ شأنه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) هذا ما يقوله ربنا تبارك وتعالى منوهاً بأهمية الأشهر الحرم. وفصل فيها النبي ﷺ فقال: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ: السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم: ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم. ورجب الذي بين جمادى وشعبان)). لاحظوا الإشارة اللطيفة التي يقول فيها ربنا جلّ شأنه: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ). لم يحدد نوع الظلم وإنما أطلق الكلمة، لكي نتجنب كل ما يمكن أن يودي بنا إلى أسباب هلاكنا وأسباب عذابنا. وفي مقدمة ذلك وقوعنا في المعاصي على اختلاف أنواعها. فعلى المرء في هذا الشهر أن يستيقظ قلبه ويحمي نفسه ويعود إلى ربه.


ولقد استحسن كثيرٌ من العلماء أن نكثر في هذا الشهر المبارك من الاستغفار لله U. والاستغفار مطلوب في كل يوم. النبي ﷺ وهو المعصوم من الذنوب يقول: ((إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ أكثر من سبعين مَرَّةٍ)) وفي روايةٍ: ((مِائَةَ مَرَّةٍ)) فنحن أجدر وأولى بأن نستغفر الله U. وإذا جاءت الأشهر الحرم التي يقول فيها الله U: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) فالأجدر بنا أن نكون أشد التزاماً بطاعته سبحانه وتعالى، وأشد احترازاً لمعصيته واستعطافاً وعودةً راشدةً إلى ربنا سبحانه وتعالى.


شهر رجب شهر التحولات.. شهرٌ له معانٍ عظيمة، فهو شهر الإسراء والمعراج. ومعجزة الإسراء والمعراج جاءت بعد معاناةٍ شديدةٍ عاناها النبي ﷺ وأصحابه من اضطهاد قريش وزعمائها لا سيما بعد عام الحزن الذي فقد فيه النبي ﷺ أم المؤمنين شريكة حياته الوفية سيدتنا خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها وعمه أبا طالب الذي كان يحرص على الدفاع عنه ﷺ والمنافحة وصد أذى المشركين عنه. بعد هذا العام تجرأت قريش كما لم تتجرأ من قبل، وصبت ألوان إيذائها على الصحابة الكرام والنبي ﷺ. تجرأ أبو جهل كما لم يتجرأ من قبل، وتجرأ عقبة بن أبي معيط كما لم يتجرأ من قبل. واشتد الأذى مما جعل النبي ﷺ يخرج إلى الطائف بحثاً عن مكانٍ يستطيع له فيه أن ينشر فيه دعوته. إلا أن أهل الطائف أساءوا استقباله أيما إساءة، وكان ردهم رداً قبيحاً عده النبي ﷺ أشد يومٍ من أيام دعوته. يوم سلطوا عليه سفهائهم وردوه عن الطائف أسوأ الرد فعاد منكسر الفؤاد، حتى لجأ إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة وصدع بذلك الدعاء الواجف: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك الحمد حتى ترضى)). أي نداءٍ هذا الذي اهتز له عرش الرحمن حتى جاء ملك الجبال فيقول له: (إن شئت يا محمد لأطبق عليهم الأخشبين). ما كان النبي ﷺ ليرضى أن يهلك أمته فقال: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا)) هذا كان جواب النبي ﷺ لقهر قريش وإيذاء ثقيف؛ كان جوابه أنه يحرص عليهم وعلى ذريتهم؛ أن يخرج الله من ظهورهم من يؤمن به ﷺ فيدخل الجنة.


وكانت استجابة الله تعالى لتلك الضراعة الواجفة إلى الله سبحانه وتعالى أن أكرمه في هذا الشهر بمعجزة الإسراء والمعراج. نعم؛ لئن ضاقت بك الأرض يا رسول الله فأبواب السماء تفتح لك، إكراماً لك ورفعاً لقدرك وبياناً لعلوّ منزلتك. عرج به إلى السماوات السبع الطباق حتى بلغ سدرة المنتهى وحتى كلمه ربه. نعم؛ كلمه ربه وفرض عليه الصلوات الخمس كما هو معروف، إلى آخر ما جرى في معجزة الإسراء والمعراج التي تعد بداية منعطفٍ في تاريخ البعثة النبوية في المرحلة المكية. لأن هذا كان ابتداء منعطفٍ انطلقت فيه الدعوة من بين شعاب مكة، لتخرج إلى خارج مكة من خلال وفود الحجاج الذين كانوا يأتون حجاجاً وزائرين إلى مكة المكرمة. فكانت بيعة العقبة الأولى وتلتها بيعة العقبة الثانية وتلتها الهجرة ليولد المجتمع الإسلامي الأول بقيادة النبي ﷺ. حيث انتهى قهر قريش لتبدأ مرحلة بناء.. مرحلة تحول.. مرحلة انطلاق.. يواجه فيها النبي ﷺ أعداءه بعد أن كان يصبر على إيذائهم؛ يواجه السيف بالسيف والعدوان برد العدوان.


نعم؛ شهر رجب شهر التحولات.. شهر انطلاق الدعوة.. شهر الانتصار. ولقد كانت معجزة الإسراء والمعراج إحدى المبشرات العظيمة في تلك التحولات التي مكن الله تعالى بها نبيه المصطفى ﷺ.


وإننا لنرجو ونحن نعاني اليوم من غدر وعدوان طاغية تركيا واعتدائه وإجرامه واحتضانه للإرهاب بصورةٍ لم يسبق إليها في الخسة والدناءة. جيشٌ يريد أن يطهر أرضه ويسترد حقه ويطرد العصابات المجرمة القابعة فيها والتي كانت تصب نيرانها على أهل حلب بعد أن صبت نيرانها على أهل سورية جملةً. حاضنة الإرهاب يريد أن يدافع عنه ويعتبر دخول الجيش السوري إلى أرضه - إلى إدلب - يعتبره عدواناً.. خسئ! هو استعادة حق وقهرٌ للطغيان. أما هو فلينتظر مصيره..


لن يكون له هناك إلا الهزيمة له والنصر لنا بإذن الله تعالى.


أسأل الله أن يؤيد أهل الحق على أهل الباطل وأن ينصر أمتنا على طغاة الأرض وأن يعيد لهذه الأمة عزتها وكرامتها وأن يمحق النفاق وأهله والغدر وجنده.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل