مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 27/12/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 27 / 12 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 27 /  12/ 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ويقول سبحانه: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ). ويقول النبي ﷺ: (لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ) ويقول النبي ﷺ: (اغتنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هِرَمِك، وصِحَّتَك قبل سِقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك).


ويروي ابن المبارك عن سيدنا علي بن علي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إنما أخاف عليكم اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل).


أيها المسلمون ..


 ماذا يعني بالنسبة لنا انتهاء عامٍ وابتداء عام؟ اعتاد الناس عند انتهاء عامٍ وابتداء عام - سواءٌ من عمر الزمن أو من عمر أحدنا؛ أي بذكرى مولده أو عيد ميلاده كما يسمونه - أن يحيط ذلك بمظاهر البهجة والسرور. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: عندما أبتعد عن تاريخ ميلادي أو عن بداية وجودي، أكون قد أنهيت عاماً من عمري مضى واستقبلت عاماً جديداً يقبل؛ ترى ما سرّ ذلك السرور؟ وتلك السعادة ومظاهر البهجة التي تقترن بذلك؟


تعالوا لنحلل ذلك بطريقةٍ عقلانية. إن مرور عامٍ من حياتي يعني أنني اقتربت إلى أجلي عاماً كاملاً؛ وأنني دنوت إلى نهايتي عاماً كاملاً. وكما قال الحسن البصري: (يا ابن آدم، إنما أنت أيام..كلما مضى يومٌ نقص بعضُك). فما سر هذا السرور إذاً ؟ فلسفة ذلك- فيما أتخيل - أنها فرصةٌ جديدةٌ أتيحت لي للمتعة والسرور، وكأن الحياة كلها إنما هي متعةٌ وسرور. وما أرى في هذا الكون كائناً حياً حياته كلها متعةٌ وسرور، بل أجدها عملاً وجداً ونشاطاً وتحملاً للمسؤولية. حتى دواب الأرض، تجد أنها لها وظيفةً تنفق حياتها في أداء تلك الوظيفة. وقد يقترن ذلك ببعض مظاهر المسرة والسعادة فذلك أمرٌ جميل، ولكن الحياة ليست كلها لهوٌ ولعبٌ ومتعةٌ وغفلة.


الحياة التي نعيشها هي حياة ابتلاء؛ حياة امتحان. وما قُدّر لأحدٍ في هذه الحياة الدنيا أن يبقى فيها؛ هذه الحياة مؤقتة. هي مزرعةٌ حصادها غداً بعد الموت، وعملٌ نتائجه تجدها غداً بعد الموت. قل لي ماذا أعددت لتكون مسروراً؟ السرور ليس هنا، السرور الذي تجده هنا هو مجرد تشجيعٍ لك على ممارسة مسؤولياتك والقيام بواجباتك. السرور الحقيقي هناك بعد الموت؛ يوم تحصد ثواب أعمالك الصالحة ومبراتك والخير الذي أنفقت حياتك فيه، إذا كنت قد استثمرت هذه الحياة في الخير، إذا كنت قد وظفت هذه الحياة في تقربٍ إلى الله عز وجل يرضيك أن تلقاه غداً يوم القيامة.


أيها المسلمون؛ علينا أن ندرك في هذه المناسبة وفي كل مناسبة؛ أن كل يومٍ تغرب شمسه فرصةٌ قد خسرتها إن لم تكن قد ملأتها بصالح العمل، إن لم تكن قد ملأتها بالقربات وبالعمل النافع لنفسك ولمجتمعك، أنت وُجِدتَ في هذه الدنيا لكي تعمل صالحاً وتحصد نتائجه غداً بعد الموت. إن كنت لا تريد أن تفكر في ذلك، فحرر نفسك من الموت. أما إنك في قبضة الله عز وجل وسترتحل إليه، فتزود للقدوم عليه. أسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الاستعداد ليوم المعاد.


وبعد فيا أيها المسلمون؛


إننا لنشكر الله عز وجل ونشكر الفعاليات الاقتصادية؛ التجار وغيرهم الذين استجابوا لدعوة المؤسسة الدينية؛ وزارة الأوقاف في خفض أسعار السلع والخدمات التي يقدمونها لأبناء هذه الأمة، في ظرفٍ يعاني فيه أبناء الأمة من حصارٍ غاشمٍ جائرٍ ظالمٍ تفرضه علينا دول البغي والعدوان.


وتخفيفاً عن هؤلاء، تضامن أبناء مجتمعنا من فعالياتٍ اقتصاديةٍ وتجارٍ وأطباءٍ وغيرهم من شتى الفعاليات؛ استجابوا لنداء وزارة الأوقاف والمؤسسة الدينية فيها استجابةً فاقت التوقعات، وتجاوزت ما كنا ننتظر. ذلك لأنها لامست شعوراً دينياً متأصلاً في قلوب أبناء هذه الأمة، وهذه الأمة لا تنقاد لشعورٍ أو دافع ٍكما تنقاد للشعور الديني الذي يتأجّج في كيانها. وما عليك إلا أن توقظ هذا الشعور ليندفع أبناء هذه الأمة للاستجابة لأي مشروعٍ خيريٍّ بنّاء.


ولقد كانت هذه الدعوة من وزارة الأوقاف والمؤسسة الدينية فيها لا تحمل أي صفة قسرية، بل هي دعوة طوعية اعتمدت على شيءٍ واحدٍ؛ على رغبة هذه الأمة في التقرب إلى ربها، وأن يتراحم أبناؤها فيما بينهم. أيقظت الشعور الديني لدى كل أبناء هذا الوطن على اختلاف أطيافهم. فاستجاب أبناء هذا الوطن لهذا الدافع الديني، بهذا الشعور الفياض الذي ينبعث من أعماق قلوبهم فترجموه بسلوكهم. وهذا ما كان قد أشار له السيد الرئيس في لقائه مع المدرّسات، عندما بيّن أن هوية هذه الأمة انتماؤها لوطنها ولدينها وأن الدافع الديني هو دافعٌ فعالٌ في هذا الوطن.


أجل؛ إننا لنشكر تجار هذا الوطن وفعالياته الاقتصادية والخدمات المختلفة في شتى المجالات، الذين استجابوا لدعوة المؤسسة الدينية ووزارة الأوقاف، ولم يشكر اللهَ من لم يشكر الناس. وكانت الاستجابة على امتداد هذا الوطن بشتى المحافظات، ومن شتى الأطياف الدينية والمذهبية، كلهم وحّدتهم هذه الدعوة. وإذ استجاب هؤلاء، فإن من واجبنا أيضاً أن نشكر المؤسسة الدينية ووزارة الأوقاف لإطلاق هذه الدعوة التي لامست ضمير هذه الأمة ووجدانها، فكان فيها شعورٌ وإحساسٌ بألم أبنائه وحاجة أبنائه، وحركت فيهم مشاعر التكافل والتراحم والتضامن بين أبناء هذا الوطن.


أيها المسلمون؛


 يعاني وطننا الكثير من آثار الحصار الاقتصادي الغاشم والعدوان المستمر من قبل دول الطغيان على وطننا، ولكن وطناً يتراحم أبناؤه ويتضامنون ويتكافلون ويتعاونون لن يغلبوا بإذن الله تعالى، وسينتصرون. أما قال النبي ﷺ: (الراحمون يرحمهم الرحمن)؟


أبشروا بنصرٍ قريب بإذن الله تعالى، وتأييدٍ كاملٍ من ربّ العزة جلّ شأنه، لأننا إذ تراحمنا فسيرحمنا، وإذ تعاوننا فسينصرنا. إن أمةً يتضامن أبناؤها ويتكافلون ويتراحمون، لن تغلب بعون الله تعالى. ستنتصر وستتجاوز كل هذه المصاعب وكل هذه التحديات، وستسطّر أمتنا من خلال تكافل أبنائها وتضامنهم وتعاونهم أسباب النصر وأسباب السؤدد بإذن الله تعالى.


وأقول إن هذا الشعور يجب أن يكون شعوراً غامراً يقظاً حياً في قلب كل أبناء هذا الوطن، في مختلف مواقعهم وفي مختلف اختصاصاتهم. الموظف يجب أن يرحم أبناء هذه الأمة.. والشرطي يجب أن يرحم أبناء هذه الأمة.. والمسؤولون في شتى المجالات يجب أن يرحموا أبناء هذه الأمة. وأمةٌ يتراحم أبناؤها سوف تدوس على كل القوى الغاشمة التي تتحدى هذا الوطن وتريد الإساءة إليه والنيل منه.


وإننا - بإذن الله تبارك وتعالى - سنبارك لأبناء وطننا قريباً بانتصارٍ إثر انتصارٍ وبمجدٍ يعلو كل مجد.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل