مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 26/04/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 26 / 4 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 26 / 4 / 2019


أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون...


يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: )شهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(


أيّها المسلمون؛ أيامٌ قليلة ويحلّ علينا شهر الرّحمة، شهر رمضان المبارك، شهر الصّيام والقيام.. شهر الصّبر .. شهر البطولات وصناعة الانتصارات.. شهر التكافل والتعاون والتضامن.. شهر العودة إلى الذات ومحاسبة النّفس وإصلاح ما مضى بما نستقبل.


شهر الصّيام والقيام، لقد فرض الله تعالى علينا صيام رمضان، فقال سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (. والصّيام عن المأكل والمشرب ونحوها من المباحات عنوانٌ يتضّمن أو يندرج تحته الصّيام عن كلّ المخالفات، عن كل المحرّمات. فإن كنّا نمسك عما يحلّ لنا إرضاءً لله تبارك وتعالى، فأولى بنا أن نمسك عما حرّمه الله سبحانه وتعالى في هذا الشّهر، لكي نكتسب صفة التّقوى، فهذا الشهر مدرسة التقوى، مدرسةٌ تصنع في قلوبنا مشاعر محبّة الله، مشاعر خشية الله، مشاعر الإقبال على الله، مشاعر استحضار الوقفة بين يدي الله U، مشاعرنا هذه يحييها شهر رمضان في قلوبنا لنكون من بعد رمضان كما قال ربّنا تبارك وتعالى)لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (.


والصّيام إمساكٌ عن حقوق النّاس.. إمساكٌ عن الظلم.. إمساكٌ عن البغي.. إمساكٌ عن العدوان.. إمساكٌ عن كل ما منعنا الله U منه، ولذلك فإنّ هذا الشّهر مدرسةٌ تربويةٌ تنقلنا من ضعف الإرادة والانسياق وراء الأهواء لكي نتماسك على منهج التّقوى الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.


وقيام رمضان... ما أمتعه وما أجله وما أطيبه، تنتعش فيه الروح، تحلّق في سماء محبّة الله U. ما ينبغي وقد كنّا نحيي ليالي هذا الشهر بصلاة التراويح أن ننقلب إلى بيوتنا لنمزّق ما أكرمنا الله U به من قربات بمقارفة المعاصي والمخالفات. ولئن كان شياطين الإنس يكيدون لنا فيضعون لنا أموراً من شأنها أن تفسد أخلاقنا وأخلاق ذوينا، فأجدر بنا أن نصوم عنها ونعلن إعراضنا عن كل ما يمكن أن يفسد مجتمعنا وبيوتنا.


شهر رمضان شهر صناعة الانتصارات؛ شهر انتصار بدر يوم الفرقان، يومٌ أعز الله الإسلام وأذلّ الشّرك والطغيان، يوم فتح مكّة.. يوم عين جالوت؛ يوم هزم طغيان تيمورلنك والغزو المغولي .. شهر القادسيّة، شهر الانتصارات والبطولات وليس شهر التقاعس والكسل. شهر الإقدام والبطولات، فليكن هذا الشّهر في نفوسنا حافزاً لمواجهة التحديات ومواجهة كلّ قوى الطّغيان والبغي بإرادةٍ صلبة وعزيمةٍ قويّة، لا نضعف أمام تحدّياتهم بل نتجاوزها ورؤوسنا مرتفعةٌ بعزّة هذا الدّين وبالتزامنا بنهج الله U. هذا الشّهر صنع انتصاراتنا فما ينبغي أن يكون شهر تخاذلٍ وتقاعسٍ وضعفٍ وجبن.


شهر رمضان شهر التّكافل.. شهر التعاطف.. شعر التّعاون.. شهر التضامن. نحن اليوم أمام التحديات التي نتعرض لها ما ينبغي أن ننهزم أمام هذه التحديات، بل علينا أن نواجهها من خلال تماسك مجتمعنا وتعاون أبنائه وتعاطفهم، لأن أمّةً يتماسك أبناؤها ويتعاطفون ويتراحمون لن تنهزم، أمّا الأمّة التي يستدبر أبناؤها بعضها بعضاً ويتنكّر بعضها لبعض فهي ليست بأمّة، هي قطيع والقطيع ينهزم. أمّا الأمّة التي هي كالجسد الواحد؛ كما وصف النبي e: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى(.


إن رهان أعدائكم إنما يهدف إلى تمزيق كلمتكم وتفتيت صفوفكم وإثارة الفتنة فيما بينكم. فلنتجاوز هذا التحدي ولنتجاوز مخطّطاتهم، ولنعلن أنّنا أمّةٌ متماسكةٌ متراحمةٌ متعاطفة، (من كان عنده فضل زادٍ فليعد به على من لا زاد له، ومن كان به فضل أرضٍ فليعد به على من لا أرض له) لنعلن لهم أنّنا جسدٌ متكاتفٌ متعاطفٌ متكافل أقوى من مخطّطات التّمزيق والتشتيت والشرذمة، بإذن الله تعالى.


ورمضان شهر العودة إلى الذات ومحاسبة النفس.. أجل، العودة إلى الذات؛ لنعد إلى أنفسنا، (فكلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ). العائدون إلى الله، الرّاجعون إلى ربّهم، النّادمون على اقترفت أيديهم، النّادمون على ما قد ارتكبوا من معاصٍ. لذلك، لنعد فنحاسب أنفسنا. حقوق النّاس نردّها إليهم ونستسمح منهم، وحقوق الله نستغفر الله من تقصيرنا فيها، وما يقضى منها قضيناه. نعلنها عودةً راشدةً إلى الله U، ومن كانت في عنقه مظلمةٌ فليردّها، وليبرئ نفسه منها باستسماح صاحبها. ليردّ الحقوق إلى أصحابها؛ لنُصلح ما بيننا وبين إخواننا، ليَصلح ما بيننا وبين ربّنا، لنُصلح ما بيننا وبين إخواننا، ليعود مجتمعنا مجتمعَ المحبة.. مجتمع التضامن والتكافل.


ثم أقول للذين أخطأوا في حقّ أنفسهم وفي حقّ الوطن (اليَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلَ). الوقفة ليست أمام طغيان دول الاستكبار والعدوان، الوقفة بين يديّ الله، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، ولا تحالفاتٌ ولا غيرها. ينفعكم شيءٌ واحد؛ حسن علاقتكم مع ربّكم.


عودوا إلى أنفسكم، يا من أخطأتم بحقّ أنفسكم.. بحقّ وطنكم.. بحقّ أمّتكم، راجعوا أنفسكم.. أصلحوا ما أفسدتم. ينبغي أن تضعوا نصب أعينكم وقفةً بين يدي الله U، يوم تشهد عليكم ألسنتكم وأيديكم وأرجلكم. )الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(. مكر الماكرين لن يجديهم بين يدي الله U وتهرّب المتهرّبين لن يفلت أصحابه من قبضة ديّان السّماوات والأرض. لنندم ولنأسف على أخطائنا، وعلى مظالمنا وعلى تجاوزاتنا، لعلّ الله عزّ وجلّ يجعل ذلك سبباً لحسن استقبالنا لشهر رمضان المبارك بإذن الله تعالى.


أيّها المسلمون؛ إنّ حسن الاستعداد لشهر رمضان يكون بالعودة إلى الذّات وتطهير النّفس، لأنّ أفخر طعامٍ إذا وضعته في إناءٍ قذر أفسدته، وأعظم القربات إن لم تكن في نفسٍ طاهرةٍ لا جدوى منها، لذلك لنعد إلى أنفسنا، ولنحافظ على أسباب التّقى في حياتنا. أسأل الله أن يرزقنا حسن الاستعداد للمثول بين يديه، وحسن الاستعداد لشهر رمضان المبارك.   أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة