مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 25/09/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 25 / 9 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ويقول سبحانه: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) ويقول جلّ شأنه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىِ بعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).


أيّها المسلمون؛ يعاني الناس اليوم من أزماتٍ خانقةٍ وضيقٍ وكرب. غلاءٌ وحصارٌ أدى إلى هذا الغلاء ومعاناةٌ في الخدمات ومعاناةٌ في الحصول على كثيرٍ من المواد الحيوية والحاجات الملحة، حتى ضاق صدر الناس واشتد بهم الحال، ولم يعد لهم إلا الالتجاء إلى الله جلّ شأنه.


والأمل معقود بالفرج من الله U وسيكون بإذن الله. فلقد ذكر ربنا تبارك وتعالى أصنافاً من الابتلاءات ثم قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) وكلمة "بَشِّرِ" جاءت مطلقةً لتشمل بشارةً بالفرج في الدنيا وبالأجر في الآخرة إن شاء الله تعالى. ومما يؤكد هذا المعنى قوله سبحانه: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً).


أيّها المسلمون، نحن أمةٌ تنسى بسرعة؛ لقد نسينا المعاناة التي كنا نعانيها قبل مدةٍ ليست بطويلة. فلقد عانينا من أزماتٍ في النفط وفي أسباب المعيشة. وبالإضافة إليها، عانينا من اعتداءاتٍ متواصلةٍ من العصابات الإرهابية التي كانت تطوق دمشق، والتي نالت بأذاها البيوت والمساجد والمدارس. ألا تذكرون ذلك؟ ولقد عانت كذلك المدن السورية الأخرى فقد كانوا يسيطرون على أجزاء واسعةٍ من مدينة حلب ومن غيرها أيضاً.


ثم إنّ هؤلاء الإرهابيين قد انصرفوا غير مأسوفٍ عليهم، وزالت تلك المعاناة. ولم يعجب ذلك الدول المتآمرة على وطننا فواصلت الاعتداء بطرقٍ جديدةٍ؛ بالحصار وبغير الحصار. ونحن اليوم نعاني الكثير من آثار ذلك العدوان في وطننا وفي معيشتنا وفي الغلاء الذي تفاقم أمره؛ نتيجة هذا العدوان وهذا الحصار.


نعم نقول: لقد انصرفت تلك الأزماتن وربنا تبارك وتعالى عافانا منها، وستنصرف الأزمات التي نعاني منها اليوم وبإذن الله قريباً إن شاء الله تعالى. ليس بطاقةٍ بشريةٍ أتفاءل بها، ولكنني متفائل بعناية الله تعالى بهذه الامة وبهذه البلاد. ألم يدعُ النبي e لهذه البلاد؟ ألم يقل النبي e: (اللّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا)؟ ألم يقل النبي e: ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ)؟ لقد أخبرنا النبي ﷺ بذلك. ولئن كنا نعاني اليوم فإن هذه المعاناة لا بد أن نصبر عليها لتعقبها بإذن الله تعالى بشارة الله U إذ قال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).


هناك أناسٌ يتحدثون – وللأسف - عن السفر. يريدون أن يتركوا الوطن إيثاراً لغيره! وطنٌ باركه الله وقدم لنا الكثير، ولا يزال يقدم لنا من خيراته وعطائه وبركاته، ومن أصالة أهله والأخلاق الطيبة التي غرسها الله تعالى في أبناء هذه البلاد. نعم؛ هناك الكثير من الطيبين الكرام الأصلاء الذين يبذلون كل ما في وسعهم، سواءٌ بالمساعداتٍ المادية أو بمعالجة المرضى أو بغير ذلك، وهذا كلكم يعرفه! هؤلاء يبذلون الكثير، ولا يريدون أن تذكر أسماؤهم لأنهم يكتفون بالمثوبة والأجر من عند الله U: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). ولئن كان في المجتمع بعض من يعاني من الأنانية والأثرة التي يشمئز الإنسان منها، فإن هؤلاء لا ينبغي أن يذكروا إلى جانب أولئك الكرام الذين يسعون بالخير دائماً ولا يزالون، فهم كما قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). نحن في هذا الوطن هناك كرامٌ عندهم من المروءة والإيثار والبذل ما نفتخر به ونعتز به، وما يخفف إن شاء الله تعالى؛ لا أقول كل الأزمة ولكن يخفف الكثير منها. نحن نعتز بهذا الوطن بأخلاق أبنائه؛ بمروءتهم.. ببذلهم.. وأقول: آمل من الذين يعانون من مرض الاثرة والأنانية أن يعافيهم الله U منها، وأن يحسوا بآلالام إخوانهم لا أن يستغلوا آلام إخوانهم.


أقول لهؤلاء الذين يريدون أن يسافروا أو يتحدثون عن السفر: يؤسفني طرح مثل هذا الكلام. لا ينبغي أن ننسى وطننا الذي قدم لنا الكثير؛ التعليمَ المجاني والتطبيبَ المجاني في كثيرٍ من جوانبه. أليس كذلك؟ هل نستطيع أن ننكر ذلك؟ وطننا هذا الذي تقدم لنا أرضه الكثير من الخيرات. نعم، نحن نعاني من الغلاء، ولكن مما يخفف من وطأة الغلاء تراحم الناس وبذلهم وتعاونهم وشعورهم بآلام إخوانهم. ينبغي أن يظل هذا الشعور حياً في القلوب.. حياً في النفوس.. يعطي آثاره لكي يخفف عن الناس العناء والمعاناة.


لقد دعا النبي ﷺ لهذا البلد فقال: اللهم بارك لنا في شامنا، فكيف نتخلى عنه وقد باركه الله U!


ما ينبغي أن ننسى ما قد تميزت به بلادنا. لقد عشنا في أزماتٍ منذ عشر سنوات؛ هل تأخرت رواتب الموظفين يوماً واحداً؟ لو أن جزءاً من هذه الأزمات التي نعاني منها نالت الدول الشقيقة الغنية، لتوقفت الرواتب أشهراً. وهذا شيءٌ مشاهدٌ ومعروف. ولكن حتى المناطق الساخنة التي كانت تسيطر عليها العصابات، كانت رواتب كثيرٍ من الموظفين تصل إليهم.


هذا شيءٌ مشاهدٌ ولا ينبغي أن ينكر، ولئن كان هناك ردة فعل فإن ردة الفعل تأتي نتيجة فعل. وأتساءل هنا: هل من الوفاء أن نتخلى عن وطننا يوم ضاقت به الحال، واشتدت عليه وطأة العدوان والحصار والاعتداءات، وندعه لنغدو خدماً وموظفين عند من يتآمرون على وطننا ويعتدون عليه ويمزقونه؟! هل هذا هو الحل؟! هل هذا هو الوفاء؟! هل هذه هي الأخلاق؟! أنتخلى عن وطننا الذي قدم لنا الكثير يوم اشتدت به الحال، فنغدو خدماً لمن مزق وطننا ولمن اعتدى عليه!


كثيرون الذين رحلوا ففقدوا هويتهم بل فقدوا أعراضهم! بل البعض منهم فقد دينه. ألا تعلمون ذلك؟ ألم تسمعوا به؟ نقول: كيف نتخلى عنه ونغدو موظفين وخدماً ونبني وطن من هدم وطننا؟ ونساعد من ينكل بأمتنا ووطننا؟


 لن نتخلى عن هذا الوطن الذي أعطى ويعطي ولا يزال يعطي ولله الحمد. لا ينبغي أن نكون متخلين عن هذا الوطن الذي يعد قطعةً من قلوبنا ونعدّ قطعةً من كيانه ووجوده.


هذا الوطن الذي دعا له رسول الله e والذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).


نعم؛ هذه هي الشام التي باركها الله U وذكر بركتها في أكثر من آية من كتاب الله تعالى. أنتركها ونتخلى عن هذا الوطن إلى غيره؟! هذا الوطن الذي قال فيه النبي ﷺ (الشَّامُ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ بِلَادِه، يَسُوقُ إِلَيْهَا صَفْوَةَ عِبَادِهِ، مَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّامِ إِلَى غَيْرِهَا فَبِسُخْطِهِ، وَمَنْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِهَا فَبِرَحْمَتِهِ). هذه هي الشام! ونحن مرابطون هنا لنكون في ظل رحمة الله تعالى. ولن نساوم ولن نتخلى ولن تضيق بنا بلادنا بإذن الله تعالى.


والمأمول أن تتضافر الطاقات كلها من مسؤولين ورجال أعمال وخبراتٍ وطنية للنهوض بشأن هذا الوطن ليستعيد عافيته وليؤدي دوره ولنكون بناته بشكلٍ صحيحٍ بإذن الله تعالى.


أسأل الله أن سبحانه وتعالى أن يفرج عنا فرجاً قريباً وأن يصرف عنا العدوان والتآمر والكيد، وأن يجعل لنا في هذا الوطن مستقرأً نبنيه وننهض بشأنه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة