مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 24/01/2020

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 24 / 1 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 24 /  1/ 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) ويقول جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ  الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ويقول سبحانه: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ).


أيها المسلمون؛ الصبر هو الثبات على المواقف والثبات على السير نحو الأهداف السامية. الصبر قوةّ إيجابيةّ في المرء تمدّه بالقدرة على الاستمرار في بذل جهده وبذل تضحياته في سبيل الغرض السامي الذي يحقق له أسمى الأهداف. وأسمى أهداف الإنسان المؤمن أن ينال رضى الله U والقبول لديه.


الصبر قوةٌ معنويةٌ تجعل الإنسان يتجشم المصاعب ويبذل التضحيات ويتحمل المشاق ويرتقي صعداً في سبيل تحقيق أهدافه نجاحاً وفوزاً وانتصاراً وتأييداً. نعم؛ هذا هو الصبر. الصبر ليس قوةً سلبيةً وليس صفةً سلبيةً. الصبر قوةٌ إيجابيةٌ تدفع بصاحبها إلى اقتحام المصاعب وتحمّل الشدائد وبذل التضحيات في سبيل الغرض الأسمى الذي يتطلع إليه.


هذا الصبر على أنواعٍ متعددة؛ منها الصبر على القيام بالواجبات والتزام المسؤوليات؛ أن يقوم الإنسان إلى صلاة الفجر والجو بارد والنوم يلذّ للإنسان في دفئ الفراش، فيتحمل النهوض (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) فيقوم وينهض إلى لذة طاعة الله U غير عابئٍ باللذة التي كان فيها، لأن لذةً أعظم كان يتطلع إليها استنهضته من فراشه وحركت همته ليقف بين يدي ربه U. أجل فالأمر يتطلب صبراً، لكي يستطيع الإنسان أن يؤثر ما عند الله على لذة نفسه.


وأن يصوم المرء في اليوم شديد الحرّ طويل الساعات مع المشقة والتعب أمرٌ يتطلّب صبراً، ولكن عندما يعلم أن الله تعالى قد ادخر له الأجر العظيم على صيامه هذا، فإنه لا يعبأ بالمشقة التي ينالها ولا يبالي الذي قد يصاب به، لأنه يتطلع إلى ما هو أعظم فائدةً وأجزل أجراً ومثوبة.


وأن يبذل المال في الزكاة والصدقات مع شحّ النفس والرغبة في الاستكثار من أسباب الغنى والثراء أمرٌ ليس باليسير؛ يتطلب تغلباً على رغبات النفس وطمعها وجشعها؛ على الجشع الذي يعاني منه؛ ولكن عندما يعلم أن الصدقة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، يهون أمامه أن يبذل الكثير في سبيل مرضاة الله.. في سبيل أن يكسب ويربح ما عند الله U. الأمر يتطلب صبراً على البذل والعطاء، لأنه يتطلع إلى ما هو بعد ذلك عند الله U.


وأن يواجه العدو في ساح الوغى فيبذل الروح ويبذل المال ويبذل النفس ويبذل التضحيات في مواجهة عدوه دفاعاً عن المبدأ.. دفاعاً عن الأرض.. دفاعاً عن العرض.. دفاعاً عن الحقوق؛ الأمر يتطلب بذلاً وجلداً. لا يمكن للذي يصاب بالجزع أن يقف في حماية أرضه ومقدساته، ولكن الذي فاض قلبه بالإيمان.. فاض قلبه بتعظيم حق الله عليه والدفاع عن الحقوق التي ائتمنه الله تبارك وتعالى عليها، تهون عنده التضحيات ويهون عنده البذل والعطاء ولو بذل الروح والجسد والمال.


وهناك نوعٌ آخرٌ من الصبر؛ صبرٌ عن الرغبات والمشتهيات. نعم؛ أن يصبر الإنسان عن رغباته ومشتهياته مع تطلع النفس إليها وتشوفه إلى شهواتها ورغباتها، أمر صعب. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك إذ قال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ  تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَأَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).


أجل؛ إنها التضحية بمشتهيات النفس إيثاراً لمرضاة الله U عليها. يتجاوز تلك المشتهيات.. وتهون أمام عينيه.. ويراها أقل من أن تنصرف همته إليها وتتطلع نفسه إليها، لأن نفسه تتطلع إلى مرضاة ربه.. تتطلع إلى ما عند الله U مما وعده الله تعالى به من الخلود في جنات عدن. وما عده الله U به من المثوبة والأجر، ووعده الله بالقرب إليه ونيل مرضاته والوصول إلى رضوانه سبحانه وتعالى. عندما يكون الأمر موازنةً بين شهواتٍ يتمتع بها في هذه الدنيا وبين خلودٍ في رضوان الله U.. سيؤثر رضوان الله والخلود في جنات عدنٍ على تلك الأمور التي هي شهوة يوم أوساعات. قال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ). نعم؛ يضحي بتلك المشتهيات مقابل أن ينال ما هو أعظم عند الله U.


ولعل المرء يقول هل يمكن للمرء أن يضحي بمشتهياته؟ لا. لا يعني ذلك أن يضحي بمشهياته كلها، بل المراد أن يكون الإنسان ذا إرادةٍ صلبةٍ وعزيمةٍ قويةٍ وصبرٍ يمكنه من أن يستثمر الشهوات ضمن الحدود الوظيفية التي خلقت لها. فالطعام لبقاء الإنسان والزواج لبقاء النوع البشري، ضمن الحدود التي يبقى فيها حصوله عليها حصولاً نظيفاً نقياً سامياً ضمن الاستحقاقات التي سمح الله تعالى له بها. عندئذٍ تنقلب تلبيته لتلك الرغبات إلى عبادةٍ يتقرب بها إلى الله U ولكن عندما تسترقه تلك الشهوات يصبح دنيء النفس ضعيفاً جباناً ينهار أمام تلك المغريات، ولا يمكن أن يبذل أيّ تضحيةٍ خوفاً على تلك المشتهيات الآنية التي تسترقّه وتستعبده.


نوعٌ آخر من الصبر؛ الصبر على الآلام.. الصبر على الشدائد.. الصبر على ألم المرض.. الصبر على المصيبة. قد يفقد الإنسان حبيبه.. قد يفقد الإنسان شريك حياته.. قد يصاب الإنسان بمرضٍ آلمه وأوجعه.. قد يصاب في ماله.. قد يصاب بأي مصيبةٍ ما؛ فإذا ما أصيب بذلك تحمّل، وجعل ما قد أصيب به قسطاً يشتري به رضوان الله U. هؤلاء الذين قال عنهم الله U: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ  الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) هؤلاء الذين لا يجزعون للمصيبة ولا ينهزمون أمام آلامها ويحتسبونها عند الله U، يصابون بالمصيبة وتأتيهم البشارة من عند الله U؛ قال: (وَبَشِّرِ) كيف يمكن أن يتجمع ألم المصيبة والبشارة؟ نعم؛ الراضي عن الله وعن ابتلاءات الله U يمده الله U بالبشارة التي تجعله يستهين بالألم مقابل الوعد الذي وعده الله U به. وقد قال ربنا تبارك وتعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).


لاحظوا أن الله U وعد المتصدق بعشرة أمثالها؛ ((مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)) كما يقول النبي e. بل تصل إلى سبعمئة ضعف. قال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ). أما الصابر فلا حدود لأجره، ولا يمكن أن يحصر ثوابه وفضله لأن الإنسان الواثق بكرم الله يغدق الله سبحانه عليه من أجره ومثوبته بدون حساب. قال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). نعم؛ هذا هو الصبر الذي يمكن أن نواجه به شتى ما قد يعترضنا من إغراءاتٍ تراودنا أو من مصاعبَ تقف في طريقنا. نستهين بهذا وذلك ونمضي في سبيل تحقيق الهدف الذي يرضي الله U بعونه ومدده إن شاء الله تعالى.


هذا صبر الأفراد.. وهل هناك صبر للأمة؟ أجل؛ الصبر الذي يمكن أن يكون على مستوى الأمة هو أساسٌ لا بد منه يحقق فيما بين أبنائها التعاطف والتضافر والتكافل، حتى تغدو هذه الأمة كجسدٍ واحدٍ يتراحم أبناؤها يتعاونون ويتكافلون؛ قال رسول الله ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).


هذا التداعي وهذا التعاون والتكافل يتطلب أن تكون النفوس تتمتع بالإيثار لا بالأثرة.. بالبذل لا بالشحّ.. بالعطاء لا بالتشبث والبخل. نعم؛ الأمة التي يتضامن أبناؤها ويتضافرون، لا يمكن أن تنال منها المصائب، ولا يمكن أن تنهزم أمام الشدائد. والله سبحانه وتعالى يقول لنا في كتابه الكريم: (وَاصْبِرْ) ويقول لنا: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). لن يستطيع الناس أن يحققوا هذا الأمر إلا عندما يتمتعون بصبرٍ يسهل عنده العطاء والتعاون والتضامن والبذل والتحابب والتكافل.


نعم؛ نحن بحاجةٍ اليوم أكثر من أي يوم مضى وفي كل يوم؛ إلى أن نكون هذا الجسد الواحد؛ نتعاون ونتضافر؛ لا نكون على جانبٍ من الشح والأنانية والآثرة بحيث أفضل نفسي وأنسى الآخرين؛ لا، أنا والآخرون جسدٌ واحدٌ.. الضرر الذي يصيبك يصيبني، والفائدة التي تنالها تنالني. هذا ما ينبغي أن تكون عليه صفتنا، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حالنا في مجتمعنا وفي أمتنا.


هذا الصبر الذي وصفناه بأنه قوةٌ إيجابيةٌ؛ من أين نستمده؟ يقول الله تعالى لنا: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ). أجل؛ من الله U. تستمدها من الله أما أمرنا ربنا أن نقول في كل صلاة نقرؤها: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) نستمد العون على الصبر من الله U نستعين به، لكي نستطيع أن نواجه مشكلاتنا ومصائبنا والمصاعب التي تعترضها وآلامنا ومواجهة المغريات التي تراودنا. نستعين على ذلك بالله U نستمد منه بمقدار ثقتنا بما عند الله.. بمقدار محبتنا لله.. بمقدر خشيتنا من الله U. لا يمكن أن تقف في طريق هذه المحبة وهذه الخشية وهذه الرغبة إغراءاتٌ ولا عقباتٌ؛ بل يهون أمامها كل شيء، لأننا قد آثرنا ما عند الله على ما بين أيدينا.


أسأل الله أن يمدنا بعونه وأن يرزقنا من الجلد والصبر ما نستطيع به أن ندفع الجزع أمام ما قد يعترضنا أو ما قد يصيبنا.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين. 

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة