مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 22/05/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 22 / 5 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 22 /  5 / 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون، يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (أَوَلَمْ نُعَمِّركُمْ مَا يَتَذَكَّر فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ). ويقول النبي ﷺ: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ وعن علمه هل عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)). وقد روي عن أبي الدرداء وعن الحسن البصري قولهما: (يا ابن آدم إنما أنت أيام؛ كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك).


أجل أيها المسلمون، إنما أنت أيام كلما مضى يومٌ نقص جزءٌ منك؛ مضى لن تستطيع استعادته ولن تستطيع استرجاعه، لن تملك العودة إليه. جزءٌ من حياتك انصرم، ومضى إلى الله جلّ شأنه بما قد ملأته من خيرٍ أو من شر، من حسنٍ أو قبح، من طاعةٍ أو معصية، جزءٌ من حياتك.


وها هو ذا شهر رمضان قد انصرم، ونحن في الساعات الأخيرة منه، مضى كما يمضي العمر كله. فهل لنا أن نراجع أنفسنا كم كنا قد استفدنا واستثمرنا هذه النفحة الإلهية العظيمة التي أكرمنا الله U بها؟  شهرٌ كامل، فرصةٌ سانحةٌ وموسمٌ للتنافس والتسابق إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. كيف كنا قد تعاملنا مع هذه الموسم.. مع هذا المتجر.. مع هذه الفرصة العظيمة التي أكرم الله بها عباده؟


قال النبي ﷺ: ((ألا إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها؟)) كم تعرضنا لها؟ مضى بلياليه المباركة وأيامه العظيمة. نعم، ظمئ من ظمئ وجاع من جاع وسهر من سهر تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى. تنافس الطائعون المتقربون إلى الله في أيام هذا الشهر. فتواصل المتقاطعون وعادت المحبة بعد هجر، وبذل المحسنون خير بذلٍ لخير مجالٍ يمكن أن يتقربوا به إلى ربهم سبحانه وتعالى. نعم، بذلوا الكثير فجبروا قلوباً منكسرةً، ووسعوا على من ضيقت عليهم الظروف الحرجة، فأسعدوهم فأسعدهم الله U بالأجر الجزيل.


أجل، الأعمال في شهر رمضان أجرها مضاعفٌ أضعافاً كثيرةً؛ متجرٌ وموسمٌ تجاريٌ عظيم أتاحه الله U لعباده، ليتصل المتقاطعون ويحسن المحسنون، وليحيي ظلمات ليالي هذا الشهر بأنوار الذكر والطاعة والقيام وتلاوة القرآن والاستغفار. فكيف أنفقتم ليالي هذا الشهر أيها المسلمون؟ فكروا.. قطعةٌ من عمركم مضت إلى الله U؛ بم قد ملأتموها، والمأمول أن يكون قد تقبل الله سبحانه وتعالى ما قد وفقنا الله له في هذا الشهر من خيرٍ على قلّته ومن عملٍ على قلّته.


نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجبر قلوبنا كما حاولنا أن نجبر قلوب عباده، وأن يصلنا كما حاولنا أن نصل من ينبغي أن نصلهم من عباده، ووسعنا فنسأل الله أن يوسع علينا في الدنيا والآخرة كما حاولنا أن نوسع على إخوةٍ لنا في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى.


أيها المسلمون، كان موسماً عظيماً وكانت فرصةً. ترى هل ستتكرر مرة أخرى؟ هل سنعيش إلى رمضان آخر فنجد مثل هذه الفرصة العظيمة لنستثمرها في التقرب إلى الله U؟ صعد النبي ﷺ على منبره وقال: ((آمين آمين آمين)). وبعد أن انتهى من خطبته سأله الصحابة: (يا رسول الله سمعناك تقول: آمين آمين آمين) قال: ((إن جبريل أتاني فقال: من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار أبعده الله قل آمين، فقلت: آمين)). فرصةٌ ضيعها من ضيعها فحرم نفسه. نسأل الله تعالى ألا نكون منهم. نسأل الله تعالى أن يشملنا بعفوه وقد بقيت الساعات القليلة، والله إن أقبلتم على الله فيها ليُقبلنّ الله U عليكم بالمغفرة والرحمة.


ألم يقل ربي سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)). أنت مقبلٌ على كريم. أقبل ولا تدبر وانتهز الفرصة ولا تضيعها، وإن كانت الساعات الأخيرة، فإنها قد لا تعود مرة ثانية.


أيها المسلمون، يتساءل المرء: ترى قد صمت وقمت وبذلت فهل تقبل الله تعالى مني؟ إن علامة القبول أيها المسلمون واضحة. الله تعالى يقول في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فإن اكتسبنا من صيام وقيام هذا الشهر صفة التقوى فلقد تقبل الله U منا. أما إن عدنا بعد رمضان كما كنا قبله، تقصيراً وتجاوزاً ومعاصي وإعراضاً، فهذا دليلٌ على أننا لم نستفد. إن علامة قبول الله تعالى منا صيام وقيام هذا الشهر أن نغدو بعده خيراً منا قبله، فكن على عزيمةٍ أن تكون إن شاء الله تعالى بعد رمضان خيراً منك قبله إقبالاً على الله U وطاعةً له وتباعداً عن معصيته وتجنباً لتلك المعاصي.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا جميعاً وأن يجعل هذا الشهر بداية انفراج وزوال الغمة وانصراف الابتلاء وزوال العدوان على بلادنا وتحررها من كل غاصبٍ ومن كل معتدٍ.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة