مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 21/08/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 21 / 8 / 2020

أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا). ويقول جلّ شأنه في كتابه الكريم: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). ويقول سبحانه: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ). وروى الشيخان عن النبي  ﷺأن سيدنا أبا بكرٍ t، عندما كان مع النبي ﷺ في رحلة الهجرة ووصل المشركون إلى غار ثور حيث كانا يتواريان فيه، وصاروا على مقربةٍ من مدخل الغار وأحدقوا به، فقال أبو بكرٍ للنبي  ﷺ: (يا رسول الله لو نظر أحدهم عند قدمه لرآنا) فقال ﷺ: ((يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)). قالها بثقة وطمأنينة (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).


أيها المسلمون، بادئ ذي بدء ومع إطلالة العام الهجري الجديد؛ أتوجه بالتهنئة أولاً إليكم، ثم إلى الأمة كلها قائداً وشعباً وجيشاً، ثم إلى عامة الأمة المسلمين في أرجاء الأرض، راجياً من الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا العام عام خيرٍ وسلامٍ وسلامةٍ وعافيةٍ وأمنٍ بعونٍ من الله سبحانه وتعالى وتأييدٍ منه ونصرٍ للحق على الباطل.


وبعد أيها المسلمون؛ فإن انتهاء عامٍ هجري وابتداء عامٍ هجري جديدٍ، يستوقفنا فيه أمران:


الأمر الأول: ما معنى الهجرة؟ ماذا تعني الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة؟ هل هي مجرد انتقال من موقعٍ إلى موقع؟ هل هي فرارٌ من القهر والاضطهاد إلى حيث يأمن المسلمين على أنفسهم؟


لا! إن الهجرة كانت ميلاد أمة، وفجر حضارة، وابتداء تاريخ. نحن اليوم في هذه البلاد والمسلمون في أقصى الشرق وأقصى الغرب يتفيؤون ظلال آثار تلك الهجرة، ويتمتعون وينعمون ببركة وآثار تلك الهجرة التي كانت نقلةً في تاريخ البشرية، وليست انتقالاً جغرافياً من مكانٍ إلى مكان.


أجل؛ إذا سمعت كلمة (الله أكبر) في أقصى الشرق في إندونيسيا فهي من آثار هذه الهجرة! وإذا سمعت الحق يجلجل في الغرب هنا وهناك، فهو من آثار هذه الهجرة! وإذا رأيت العالم ينعم بحضارةٍ علميةٍ وتقنيةٍ وغير ذلك، فهي من غراس تلك الهجرة! لأن العالم الغربي الذي يتباهى اليوم بما وصل إليه، إنما وصل إليه بالنهضة العلمية التي تفجرت نتيجة تلك الهجرة وشاعت آثارها في الأرض.


نحن المسلمين؛ عفواً أجدادنا الذين كانوا متمسكين بالإسلام علّموا العالم كيف تكون الحضارة، أما نحن فبمقدار تخلينا عن إسلامنا، تخلينا عن أسباب قوتنا وعزتنا وحضارتنا. وبمقدار ما نتمسك بديننا، نستطيع أن نستعيد مكاننا في التاريخ مرة أخرى.


نعم، أقول: إن انتصار الإسلام في تلك المرحلة من التاريخ لم يكن انتصار جيشٍ على جيشٍ ولا انتصار أمةٍ على أمة، بل كان انتصار الإنسانية على واقع الفساد والجهل والتخلف والظلم الذي كانت تعاني منه. أجل؛ كان انتصاراً للإنسانية على الواقع المزري الذي كانت تعاني منه.


والأمر الآخر الذي أريد الإشارة إليه: أن العالم اليوم ينتظر منا تجديد الدور الذي كان أجدادنا قد مارسوه بإنقاذه من الواقع المزري التي انحط إليه؛ واقع الفساد، واقع الإباحية، واقع شيوع الفسق والفجور، واقع تفشي الجريمة، واقع انهيار الأسرة ونفسخ المجتمع، والحديث يطول!  العالم اليوم ينتظر الأمة الإسلامية لتستعيد دورها في إنقاذ الإنسان من معاناته من حالة تفشي الانتحار.. من حالة تفشي الجريمة.. من حالة تفشي الأمراض الجنسية.. من حالة تفشي الأمراض النفسية.. انظروا إلى عيادات الأمراض النفسية عندهم، تجدون أنها ملأى بالأمراض النفسية.. لم تستطع التقنية الحديثة أن تنقذهم، بل أمعنت في سقوطهم في أوحال تلك الأمراض وذلك الواقع المزري.


ولكن المريض لا يمكن أن يعالج مريضاً، والجاهل لا يمكن أن يعلم جاهلاً؛ العالم هو الذي يعلم الجاهل، والإنسان المتحضر هو الذي ينقذ الإنسان المتخلف، أما الإنسان المتخلف فلا يستطيع أن ينقذ الإنسان المتخلف.


أمرٌ آخر؛ ماذا يعني انتهاء عام وابتداء عامٍ جديد من حياة الإنسان. أيها المسلمون؛ عامٌ بكامله بلياليه وأيامه انصرم من حياتكم.. مضى إلى الله U ليشهد لنا أو يشهد علينا، بكل ما قد ملأناه في صحائف أيامه من خيرٍ أو من شر.. من طاعةٍ أو معصية.. من ذكرٍ أو غفلةٍ.. من استقامةٍ أو انحراف.. مضى ليشهد لنا أو علينا..


فهل من جلسة محاسبةٍ للنفس وعودةٍ إلى الذات لنتساءل: بماذا ملأنا أيامنا الماضية؟ عامٌ بكامله مضى.. خسرناه! لن تستطيعوا أن تستعيدوه بأسابيعه وأيامه والله تعالى يقول في كتابه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هل استحضرت معنى قوله تعالى (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)؟ لكي تعود إلى نفسك وتستحضر العام الذي انصرم.. بل الحياة التي مضت من عمرك.. ولا تدري يا ترى هل ستعيش لمثله؟ كم ممن كان فيما بيننا في العام المنصرم ليس اليوم فيما بيننا! شباباً أو شيباً، أصحاء أو مرضى... مضوا، كانت الفرصة متاحةً لهم وانتهت. والفرصة متاحةٌ لنا اليوم وستنتهي، ولكن من منا من يعلم متى ستنتهي حياته؟ بماذا تزودنا لها؟


أيها المسلمون؛ يقول النبي: ((الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ)) قال سيدنا عمر: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا).


أيها المسلمون؛ إننا اليوم نتعرض لتحدياتٍ في اقتصادنا بسبب الحرب العدوانية التي تستهدف وطننا وأمتنا، وما لم نواجه ذلك بوعيٍ وشجاعة، فإننا لن نستطيع أن نتجاوز واقعنا ومشكلاتنا. بوعيٍ يجعلنا بمنأى عن التأثر بالحرب النفسية التي تشنها جهاتٌ معاديةٌ تستهدف ثقتنا وقوتنا، وتشككنا بإمكاناتنا. وشجاعةٍ تدفع بنا إلى أن نزج طاقاتنا الإنتاجية، بشريةً أو ماليةً، في مجال إنتاجٍ معطاءٍ مثمرٍ يجدي وينفع المجتمع.


ولقد أشار السيد الرئيس إلى هذا المعنى عندما قال: (رأس المال الوطني ما ينبغي أن يكون جباناً). أقول: لا بد من إعادة النظر في كثيرٍ من الأنظمة والأساليب التي ألفناها، لكي نزج بإمكاناتنا في عطاءٍ وإنتاجٍ.. لا بد أن نزج بطاقات الوطن بصورةٍ أكثر جرأةً وشجاعةً بعد أن نكتسب الثقة والطمأنينة إلى سلامة الخطوات التي نخطوها.


وأختم كلامنا بقول النبي: ((البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ)).


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي