مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 21/06/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 21 / 6 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 21 / 6 / 2019


أمّا بعد؛ فيا أيّها المسلمون، يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: {وإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، ويقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا * وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، ويقول سبحانه: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.


أيّها المسلمون؛ سبق أن تحدّثنا عن منهج الإسلام في بناء الأمّة، إذ يبدأ في إعداد الفرد الصّالح المستقيم، صحيح العقيدة سليم السلوك، ذا علاقةٍ صحيحةٍ مع ربّه ومع المجتمع؛ وصولاً إلى بناء الأسرة المتماسكة المتحابّة، التي يسودها البرّ بين الأبناء والآباء، وحسن العلاقة والمعاشرة بين الزوجين، وصلة الأرحام؛ لكي يتكوّنَ من مجموع الأسر المتحابّة مجتمعٌ متماسكٌ متعاضدٌ متكافلٌ.


والحديث اليوم عن الأمّة بأسرها، من مشرق العالم إلى مغربه، إذ أعلن القرارٌ الإلهيُّ وحدة هذه الأمّة؛ هذا القرار ليس قراراً سياسياً، ولا قراراً من جهةٍ أرضيةّ، إنّما هو قرارٌ إلهيّ، إذ يقول سبحانه: (وإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ). ثمّ جعل هذا الإيمان، الذي هو قاعدةُ وركيزةُ هذه الوحدة رابطةً تَعقدُ بين أبناء هذه الأمّة رباطَ الأخوّة، فقال عزّ شأنه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). فالمسلم في أقصى الشرق أخٌ للمسلم في أقصى الغرب، والمسلم العربيّ أخٌ للمسلم الأعجمي، والمسلم الأبيض أخٌ للمسلم الأسود، والمسلم في الجنوب وفي الشمال؛ جميع أبناء هذه الأمّة إخوة، عقد أخوّتها ربّ العزّة جلّ شأنه، ولن يغلب هذا القرار الإلهيّ قرارٌ أرضيٌّ مهما بلغ شأنه.


هذه الوحدة التي باركها ربّنا سبحانه وتعالى، تحمّلنا مسؤولية توطيدها والمحافظة عليها وحراستها. ولقد تآمر أعداء الأمّة الإسلاميّة، منذ ولادة هذه الأمّة، على وحدتها، وحاولوا جهدهم ليل نهار تمزيق هذه الوحدة وتفتيت هذا الجسد. أمّا في عهد النبوّة، فلقد حاولوا ذلك من خلال طرح: مهاجريٍّ وأنصاريٍّ .. وأوسيٍّ وخزرجيٍّ .. وعربيٍّ وأعجميٍّ؛ إلا أنّ هذه الاعتبارات سقطت عندما أعلن النّبي أنّ العصبيّة ومآثر الجاهليّة قد دفنت تحت قدميّ النّبيّ.


ولكن مع ذلك، تعرّضت الأمّة لمكائد مستمرّة لتفتيت كلمتها، وإضعاف وحدتها وتوهين تماسكها، وتعرّضت للكثير. ولكنّها تجاوزتها في مراحل تاريخيّةٍ كثيرة. منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا والأمّة تتعرّض لمكائد تحاول تفتيت كلمتها وتمزيق صفّها. وحاولوا أن يثيروا الفتنة، وتجاوزت الأمّة بفضل الله تبارك وتعالى الكثير من آثار تلك المحاولات، ولا أقول كلّها، لأنّنا نحتاج إلى مزيدٍ من الوعي، ومزيدٍ من الإخلاص، لكي نتجاوز البقيّة الباقية من آثار تلك المحاولات.


أيّها المسلمون


 إننا مسؤولون أمام الله عن سلامة وحدة هذه الأمّة؛ ولئن ظنّ البعض أن اختلاف علماء هذه الأمّة في جزئياتٍ فقهية في مذاهب متعدّدة أنّه خلاف؛ إنه اختلافٌ تعاونٍ وليس اختلاف تنازع. جميع الأئمّة كانوا إخوةً متعاونين في سبيل معرفة الحكم الشرعيّ، ولئن ظهرت بعض الاختلافات فيما بينهم، فهو اختلافٌ أغنى مكتبنا الفقهيّة وأثراها، وقدم لنا كنوزاً نجد آثارها في يومنا هذا، في حلّ كثيرٍ من المشكلات والنّوازل التي نجد حلولها في حياتنا المعاصرة، كان علماؤنا في السّلف قد بحثوا في أمثلةٍ مشابهة لها. أجل هو اختلاف تعاونٍ، وكلّهم كان يعود إلى النّص ويحتكم إليه. قد تختلف فهومهم للنّص ولكنّهم متّفقون على التزام هذا النّص، وعلى قواعد متينةٍ راسخةٍ في طرائق تفسير هذا النّص.


وقد وُجدتْ اختلافاتٌ في جزئياتٍ بسيطةٍ من أمور العقيدة، اندثرت بفعل الحوار العلميّ، وتجاوزت الأمّة معظم تلك الإشكالات بحوار علميٍّ هادئٍ. لم يكفّر بعض أبناء هذه الأمّة بعضاً، ولم يصلوا فيما بينهم إلى صراعٍ، بل تجاوزوا كلّ تلك الاختلافات، من خلال حوارات علميّةٍ سجلّتها مدوّنات تاريخ العقائد التي هي بين أيدينا، ولله الحمد.


أيّها المسلمون


 إنّ الولاء للعدوّ وتمزيق هذه الأمّة واختلافنا وتنازعنا فيما بيننا، معصيةٌ لله تبارك وتعالى ومخالفةٌ لأمره سبحانه؛ ألم يقل لنا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)؟ ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)! ألم يقل لنا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)!.


ما ينبغي أن نمعن في مبضع التّجزئة والتّفريق والتّشتيت في جسد أمّتنا، لأنّ هذا معصيةٌ لكتاب الله تعالى، ومعصية لأمر الله، وتمكينٌ للعدوّ من رقابنا، وتمكينٌ للعدوّ من بلادنا، ومن مصادر ثروتنا ومن أسباب قوّتنا.


إنّ الولاء للعدوّ في محاربة الصّديق انسلاخٌ عن الهويّة وذوبانٌ في بوتقة خدمة العدوّ. ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)! ما ينبغي أن ننسلخ عن هويّتنا؛ ينبغي أن نتشبّث بحبل الله، تطبيقا لحكمه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا). إنّ الفرقة تحت شعار المذهبيّة أو الإقليميّة أو العرقيّة؛ تلك أمورٌ قد تجاوزتها أمّتنا عندما أعلن النّبيّ ، أنّ مآثر الجاهلية موضوعةٌ تحت قدمه؛ فلا عصبيّة ولا اختلاف ولا تنازع، لأنّنا ينبغي أن نكون جسداً واحداً، متحابّين متكافلين متعاونين، تجمعنا كلمة (لا إله إلا الله)، وتستقطبنا قضايا أمّتنا العظيمة الخطيرة.


انظر إلى أبناء أمّتنا كيف يطوفون من مشارق الأرض ومغاربها حول الكعبة المشرّفة، على اختلاف ألوانهم، وعلى اختلاف لغاتهم قائلين: (لّبيك اللّهم لبّيك ... لبّيك لا شريك لك لبّيك). فكيف يمكن لقرارٍ أرضيٍّ أن يمزّق هذه الأخوّة، وأن يمزّق هذا الاتحاد الذي عقده ربّنا تبارك وتعالى؛ هذه الوحدة التي عقدها ربّنا سبحانه وتعالى. الشعوب المسلمة متآخيةٌ متّحدةٌ متضامنة؛ قلب الإنسان المسلم في أقصى الشّرق يتعاطف مع إخوانه في المسجد الأقصى، يتعاطف مع إخوانه في أرض فلسطين، ويتعاطف مع إخوانه هنا في سورية، لآلامهم ولجراحهم التي أصيبوا بها؛ يتعاطفون من مشرق الأرض إلى مغربها مع إخوانهم. ولئن حالت الحدود الجغرافيّة والفواصل السياسيّة فيما يبنهم، فلسوف تتجاوز هذه الأمّة تلك الفواصل، ولسوف تعود بإذن الله تعالى أمّةً متماسكةً متكاتفةً متعاونةً، تتجاوز كلّ قرارٍ أرضيٍّ بفعل القرار الإلهيّ عندما قال: (وإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).


أسأل الله تعالى أن يعيدنا إلى بوتقة دينه متآخين متحابّين، وأن يجمع كلمة هذه الأمّة على الحق والهدى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فيا فوز المستغفرين.


تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة