مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 20/12/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 20 / 12 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 20 /  12/ 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ويقول سبحانه: (وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) وقد أمرنا ببرّ الوالدين فقال: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا). وأمرنا بالتكافل والتضامن على مستوى الأسرة والأقرباء والمجتمع فقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا). وأمرنا بالاعتدال في النفقة فقال: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) ويقول ربنا U في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).


أيها المسلمون؛ ذكرنا أن النبي ﷺ هاجر إلى المدينة المنورة، وجعل أساس المجتمع الإسلامي الجديد الذي أقامه هناك ثلاثة أمورٍ عظيمة: الأولى منها بناء المسجد. والأمر الثاني؛ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. والأمر الثالث؛ الوثيقة التي تبين ولادة هذا المجتمع على أرض المدينة المنورة، وتحدد العلاقة بين سكان المدينة المنورة على أساس أنهم جميعاً متضامنون - مسلمين ويهود - في الدفاع عن المدينة المنورة، والقيام بشأن مجتمعاتهم؛ فالمسلمون أمة واليهود أمة، وكلاهما يقتسمان المسؤولية في الدفاع عن المدينة المنورة.


هذا المجتمع حكَمَتْه قيمٌ ومبادئٌ أرساها كتاب الله U وبينتها السنة المطهرة، ونفذها الصحابة الكرام. ونحن اليوم مطالبون بأن نجعل من تلك المبادئ والقيم أساساً لحياتنا ونظاماً لعلاقاتنا.


الأساس الأول هو العدل. العدل هو إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقه، أياً كان هذا الإنسان بغض النظر عن صفته وانتمائه. قد يكون من عامة الناس وقد يكون من الفئة العالية من المجتمع، قد يكون مسلماً وقد يكون غير مسلم، قد يكون من فئةٍ شريفةٍ ذات أهمية، وقد يكون من السواد الأعظم من بسطاء المسلمين.. كل ذلك لا يمكن أن يغير من واجب العدالة في التعامل مع كل فردٍ من أبناء المجتمع على نهج المساواة، بحيث يعطى كل ذي حقٍّ حقّه.


وهذا الأمر نجده مترجماً في حياة النبي ﷺ يوم سرق طعمة بن أبيرق درعاً، وأخفى معالم جريمته واتهم بالسرقة جاراً له يهودياً. وكاد النبي ﷺ أن يثبت اتهام اليهودي بالسرقة، هناك بعض العلامات والقرائن تكاد تكون مؤكدة لذلك. حتى نزل كتاب الله عزّ وجلّ يقول للنبي ﷺ: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) ويعني بالخائنين: طعمة ومن تعاطف معه. فقضى ضد طعمة وبرأ اليهودي، فالدين لا يمكن أن يحدد درجة العدالة بل يقام الحكم بالعدل، سواء كان المحكوم له أو المحكوم عليه مسلماً أو غير مسلم.. من فئةٍ من علّية القوم أو من سوادهم.. أياً كان يقام الحكم بالعدل والإنصاف ويعطى كل ذي حقٍ حقه.


ومثل هذا الأمر جرى أيضاً، يوم سرقت امرأةٌ مخزومية، فرفع الأمر للنبي ﷺ والحكم بالنسبة للسارق قطع يده. فاستعظم الناس ولا سيما وأنها من قبيلة بني مخزوم - وهي من أشرف قبائل قريش – كيف يمكن أن يقضى على امرأةٍ في جريمة سرقة وهي من قبيلة بني مخزوم، فاستشفعوا في شأنها أسامة بن زيد. فماذا قال النبي ﷺ؟ لقد قال: (أتَشْفَعُ في حَدٍّ من حُدُود اللّه تعالى؟ ثم قام فخطب، فقال: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، والذي نفس محمد بيده لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) أجل فالعدل هو الأساس الذي يجب أن تتمسك به الأمة لكي تحقق بذلك سلامتها ومكانتها وقوتها وانتصارها.


الأمر الثاني هو التضامن والتكافل. وقد ترجم الصحابة الكرام مبدأ التضامن والتكافل والتعاطف بأجلى صورة وأعظم شكل. أما علمتم كيف استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين؟! قاسموهم المال..قاسموهم البيت..قاسموهم الحقل.. وشاطروهم ذلك قائلين: (هذا بيتي نصفه لك ونصفه لي..وهذا متجري نصفه لك ونصفه لي..) بهذه الصورة شاركوا إخوانهم المهاجرين. وتعفف المهاجرون في كثيرٍ من الأحيان، وقالوا لإخوانهم الأنصار: (دلني على السوق). يريد أن يعمل، لا يريد أن يكون عالةً على الآخرين. نعم؛ قد يقبل منه مساعدته ريثما ينهض، ويستطيع متابعة السير في بناء حياته وبناء هذا المجتمع. بهذا الأسلوب أثنى الله تعالى عليهم عندما فعلوا ذلك فقال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ *وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بهذا الأسلوب تحقق التضامن وتحقق التكافل والتراحم.. فكان ذلك بناءً لمجتمعٍ متينٍ قويٍ لا يخشى التصدع ويواجه كل المخاطر بقوةٍ وتماسكٍ وتعاونٍ وتضامن.


الأمر الثالث؛ هو الرغبة في مثوبة الله والخشية من عقابه. انظر إلى الرغبة في مثوبة الله؛ مرت بالمدينة سنة شدّةٍ وضائقة - كالسنوات التي تمر بنا اليوم - وكان لسيدنا عثمان قافلةٌ من الأرزاق قادمةً من الشام. فأراد التجار أن يتسابقوا إليها لكي يربحوا في ذلك الموسم ربحاً مناسباً. واجتمعوا عند عثمان وعرضوا عليه: (نعطيك بالمئة كذا ونعطيك بالمئة كذا..) وهو يقول: (أُعطيت أكثر) ثم إنهم قالوا وهم تجار المدينة له: (من الذي أعطاك أكثر ونحن تجار المدينة؟) قال: (إن الله قد أعطاني بالحسنة عشر أمثالها وإن الناس اليوم في شدّةٍ وضائقة وقد جعلتها لهم أحتسبها عند الله U). هذه صورة لرجاء المثوبة من الله سبحانه وتعالى. ومثل ذلك صورٌ كثيرةٌ تحققت في مجتمعنا وفي أمتنا. واليوم كم نحن بحاجةٍ إلى مثل هذا المعنى؛ معنى مراقبة الله سبحانه وتعالى ورجاء ثوابه والخشية من عقابه.


تلك الفتاة التي سمعها عمر تقول لها أمها: (قومي يا بنية فامذقي اللبن)؛ أي اخلطيه بالماء، وهذا غش. قالت لها: (أوما سمعت أن عمر منع عن مذق اللبن؟) قالت لها: (وأين عمر الآن؟ وهل يراك عمر؟) قالت: (يا أماه.. إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا). هذا الوازع الإيماني جعل عمر رضي الله عنه يرتجف إجلالاً لهذا المعنى ويكبر في تلك الفتاة اليافعة التي كانت قد تفوقت على أمها وعياً وإيماناً وقوة التزام، فخطبها لابنه عاصم فأنجبت له من ابنتها سيدنا عمر بن عبد العزيز.


أيها المسلمون؛ كم نحن اليوم بحاجةٍ أن نجدّد سيرة ذلك المجتمع العظيم الذي أسّسه النبي ﷺ في عصرنا هذا لنعالج الحالة البائسة التي نعاني منها؛ أن نتضافر فيما بيننا ونتراحم ونتعاون وأن نستشعر مراقبة الله U لنا فيما نفعل وفيما نقبل عليه. نحن اليوم بأشدّ الحاجة إلى التضامن والتكافل والتراحم. أقول هذا وأوجه كلمتي إلى كلّ إنسانٍ في هذا البلد، في هذا القطر، لأننا قد تجاوزنا محنةً شديدةً قاسيةً، حيث تكالبت دول البغي والعدوان على وطننا هذا، لكي تفتته وتمزقه، فبذلت أمتنا الدماء حرصاً على سلامة هذا الوطن، واستطاعت بفضل الله U أن تتجاوز الكثير الكثير من تلك المعارك ومن تلك الحالة الخطيرة التي كنا فيها.


بقيت أمامنا الحرب الاقتصادية التي لا تخفى على أحدٍ منكم؛ حصارٌ وتضييقٌ وسلب ثرواتٍ ومقدّرات. إذا كنا لا نتضامن اليوم فمتى نتضامن؟! إذا كنا لا نتعاطف اليوم فمتى نتعاطف؟! إذا كنا لا نتراحم اليوم فمتى نتراحم؟! إذا كنا لا نثق بوعد الله U فإننا لن نفلح أبداً.


أقول لإخواننا التجار وأقول لكل مواطنٍ في هذا البلد: دعونا نمد أيدينا إلى بعضنا فنمسح آلام بعضنا ونخفف معاناة بعضنا. أقول للتاجر: (أسأل الله أن يبارك لك في رزقك وأسأل الله أن يزيد في منحك وعطائك)، أقول له: (لو أنك ارتضيت لنفسك بتخفيف نسبة الربح لتخفف عن أخيك المواطن والله لن يضيع ذلك)، قال النبي ﷺ: ((ما نقص مالٌ من صدقة)) أنت إذا أعطيت من حر مالك أنت الرابح، فكيف إذا خففت من نسبة ربحك إلى حدٍ ما بحيث تخفف عن أخيك المواطن الذي يعاني من حصارٍ وغلاءٍ وشظفٍ وضائقةٍ. فكن متحسساً لألمه، شريكاً له في معاناته. لا أقول لك: ادفع له مالك - سيدنا عثمان t دفع لهم القافلة كلها - نحن لن نبلغ مستوى سيدنا عثمان، ولكن أقول: خفض نسبة ربحك..


لقد اجتمع العلماء في وزراء الأوقاف وطرحوا مبادرةً فيها دعوةٌ لكل أبناء مجتمعنا أن نتراحم وأن نتعاون وأن نتضامن، لأن أمةً يتضامن أبناؤها ويتراحمون ويتكافلون لن تغلب بإذن الله تعالى، لأن الله سبحانه تعالى قد وعدنا برحمته فقال النبي ﷺ: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) وتوعد بالمقابل فقال: ((من لا يَرحم لا  يُرحم)) إن الكسب الحرام يُمحق ويمحق صاحبه، وإن الصدقة تنمو في مالك ويبارك الله لك فيها. الذين يرتضون لأنفسهم أن يأكلوا مال الظلم بأي صفةٍ من الصفات ولأي سببٍ من الأسباب، إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً. الذين يأكلون أموال اليتامى أو مال أي إنسان ظلماً، سيؤول ماله إلى الخسارة وستمحق أرباحه وسيخسر بلا شكٍ وبلا ريب.


وهذا أمرٌ مشاهدٌ ولكن في المقابل: (الراحمون يرحمهم الرحمن) تعالوا نتضامن.. تعالوا نتكافل.. تعالوا نتعاون لنخفف عن بعضنا ألم الغلاء.. ألم الشدة.. ألم الحصار.. ألم الضغوط الخارجية التي تريد أن تركع أمتنا، وأمتنا لا تركع إلا لخالقها. لا ينبغي أن نضعف من عزيمة أمتنا وصمودها وصبرها على هذه الشدائد والمآل هو النصر بإذن الله تعالى. وسينال شرف النصر من ساهم، سواء بدمه أم بماله أم بتضامنه وتعاونه مع إخوانه. نحن جميعاً جسدٌ واحدٌ، وقد قال النبي ﷺ: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). نعم علينا أن نتضامن ونتألم لألم إخواننا ونسعى في التخفيف عن بعضنا وإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


 

تحميل



تشغيل

صوتي