مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 20/11/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 20 / 11 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم: (إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وتروي السيدة عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الشيخان وآخرون قصة بدء الوحي على النبي ﷺ فتقول: )أَوَّلُ ما بُدِئَ به الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ( ثم حبب الله تعالى له الاختلاء في غار حراء فكان يتحنّث؛ أي يتعبد – فيه الليالي ذوات العدد، ثم يعود إلى خديجة فتزوده لمثلها؛ أي لليالٍ أخرى يتعبد فيها في غار حراء. وفي إحدى ليالي تعبده، فجئه الوحي؛ إذ جاءه جبريل وهو في حالة تعبده وتقربه إلى الله جلّ شأنه، فقال له: "إقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ، فضمه ضمةً شديدةً حتى كادت نفسه تزهق. ثم قال له الثانية: إقْرَأْ، فقال: قلت: ما أنا بقارئ فضمه مرةً ثانية"؛ وهكذا ثلاثاً ثم قال له: (إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).


وما أن مضى جبريل إلى السماء حتى استبدت بالنبي ﷺ حالة من الوجل ومضى مسرعاً إلى بيته يقول لخديجة: )زملوني.. زملوني.. دثروني( وقد استبدت به البرداء. حتى إذا هدأت نفسه قال: "ما الذي جرى؟ والله لقد خفت على نفسي". فقالت له السيدة العاقلة الحصيفة خديجة رضي الله عنها: "كلَاّ والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" فكانت هذه الصفات علاماتٍ للسيدة خديجة رضي الله عنها أن الله سبحانه وتعالى لن يسلمه إلى أذى.


ثم مضت به إلى ابن عمٍ لها هو ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية وهو رجلٌ كبيرٌ في السن. فقالت له: "اسمع من ابن أخيك ما الذي جرى له)، فسأله: (ما الذي جرى معك؟) فحدثه بخبر ما قد تعرض له. هنا قال ورقة بن نوفل: "إنه الناموس الذي أنزله الله على موسى وعيسى؛ أي الوحي الذي أنزل على موسى وعيسى، ليتني كنت شاباً جذعاً إذ يخرجك قومك". قال: "أوَمُخرجيّ هم؟" قال: " ما أتى نبي قومه بمثل ما ستأتي به إلا أوذي. وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً".


أيّها المسلمون؛ هذا مشهدٌ آخر من مشاهد سيرة الحبيب المصطفى ﷺ ولعله من أهم المشاهد التي ينبغي أن يتوقف عندها المسلم بتأملٍ ووعيٍ وتحليلٍ عقليٍ سليم.


 النبي الذي أمضى في قومه أربعين سنةً موضع ثقةٍ مطلقة، لأنه الصادق والأمين؛ وثقوا به ثقةً كاملةً لما عهدوا من صدقه وأمانته، فهم لم يعهدوا منه كذباً قط، وكان موضع الثقة الكاملة. يضاف إلى ذلك أن أحبار اليهود والنصارى كبحيرا الراهب وغيره كانوا قد أشاروا إلى أن لهذا الرجل؛ أو لهذا الطفل، منذ طفولته، شأناً عظيماً في مستقبل الأيام وأثراً كبيراً يعم العالم كله. وأمرٌ آخر: هو تلك الإرهاصات أو الخوارق أو الأمور التي أكرم الله بها نبيه ﷺ وهو طفل عندما استرضع في بادية بني سعد وفي مواقف كثيرة. إذ رأوا من عناية الله به، ومن البركة التي أحاطته وحلت حيث حل وحادثة شق الصدر وغير ذلك؛ كل تلك الأمور مهدت لرسالة النبي ﷺ وكانت حجةً على الناس.


ولكن، ومع الثقة التامة بصدق النبي ﷺ ، بادر إلى الإذعان بالرسالة الإلهية، بعض الناس ممن لم تكن بينهم وبين الحق حواجز آمنوا به. إلا أن الذين ضاقت صدورهم بالحق، وألفوا المكابرة والعناد استكبروا وأبوا أن ينصاعوا لهذه الدعوة الإلهية.


نزلت على النبي ﷺ تلك الآيات، ثم نزلت عليه آيات المزمل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) تستنهضه ليقوم، انتهت فترة الخلوة التي أُعِدت بها روحه ونفسه وقلبه لاستقبال الحقيقة السماوية واستقبال جبريل عليه الصلاة والسلام. فقد آن الأوان لكي يعيش بين الناس ولكي يتهجد في الليل في بيته لا في غار حراء. ثم نزلت عليه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمِ فَأَنْذِرْ). انتهت مرحلة الانطواء والخلوة وبدأت مرحلة العمل والجهاد بالدعوة إلى لله ﷺ ومواجهة الأباطيل والضلالات بالحجة والبرهان والحكمة والموعظة الحسنة.


ومضى النبي ﷺ يدعوا إلى الله سراً يخص بدعوته من كان يأنس منهم الاستجابة. فتبعه أربع: زوجته وصديقه المخلص سيدنا أبو بكر ، وكذلك غلامه الذي كان قد تبناه حتى منع ربنا تبارك وتعالى التبني وهو زيد بن حارثة وسيدنا علي. ثم أسلم لفيفٌ آخر عامتهم من الفقراء، وإن كان بينهم قلة من أثرياء مكة، كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما.


تحركت الدعوة الإسلامية بنشاط النبي ﷺ لمواجهة حالة الضياع التي كان يعاني منها الناس حيث الخصومات تشيع والظلم وظلمات الضلال والوثنية واستتباب الخرافة في عقولهم وأفكارهم.


هنا يعرض لنا أمر! لماذا واجه كبار المشركين دعوة النبي ﷺ بالرفض؟ هل كانوا يشكون بصدقه؟ هم أعرف الناس بمدى صدقه، وأشد الناس ثقةً بأمانته؛ لم يكونوا يجدون من يطمئنون إليه فيستودعونه ودائعهم وأموالهم إلا محمداً ﷺ. إنما كان هناك عاملان؛ العامل الأول هو التبعية العمياء للآباء والكبراء، والعامل الثاني هو الاستكبار، لأنهم كانوا يجدون أن لبني فلان اللواء ولبني فلان الزعامة في مكة؛ أفتكون لبني هاشم النبوة وليس لها نظير فيهم؟! وهذا ما صرح به أبو جهل استكباراً وعناداً.


وبهذه الصورة يتضح لنا أن الذين يأبون ويرفضون الإذعان لحقيقة الدعوة الإلهية اليوم تحجبهم عن ذلك شهوةٌ استبدت بنفوسهم وملكت عليهم أهواءهم والإسلام يقيد انصياع الإنسان لشهوته، والأمر الآخر هو العناد والمكابرة. هذا الذي يحول بينهم وبين الاستجابة لدعوة الله.


هنا لا بد من الإشارة إلى أن ما جاء به سيدنا محمد ﷺ والذي تعتبر ليلة بعثته أو ليلة غار حراء في مجيء جبريل عليه الصلاة والسلام إليه مؤشراً مهماً وعظيماً يميز شخصية محمد بن عبد الله ﷺ عن الفلاسفة والعباقرة والزعماء والقادة فهو لم يأت قومه بزعامة ولا بملك ولا بفلسفة ولا بشيءٍ من هذا القبيل؛ إنما قال لهم: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَ). كلفني الله برسالةٍ حملني إياها ولا يسعني إلا أن أبلغها. وهذا الذي قاله لعمه أبي طالب عندما شكى إليه عمه شدة وطأة قريشٍ عليه، قال: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".


لا يمكن أن يتخلى النبي ﷺ عن واجبٍ فرضه الله تعالى عليه ومهمةٍ قدسيةٍ لا بد أن يتحمل أعباءها ويضحي في سبيل نشرها. إنها رسالة الله وليست رسالة محمد ﷺ ولا رسالة غيره؛ هي رسالة إلهية نزل بها جبريل عليه الصلاة والسلام على قلب سيدنا محمد ﷺ.


هنا أقول: حديثي هذا لمن يؤمن بالله سبحانه وتعالى. أما الذين لا يؤمنون بالله والذين استغلقت عقولهم مع كثرة الأدلة والبراهين، ومع وضوح الحقيقة الإلهية؛ ومع ملاحظة دقة التنظيم الإلهي لهذا الكون. كونٌ منظمٌ من الذرة إلى المجرة بأدق نظام أيكون قد جاء عفو المصادفة العمياء؟ ما هذه العقول؟! ما هذا التفكير المعوج؟! ما هذه المكابرة؟! أحدنا لا يمكن أن يصدق عن عملٍ بسيطٍ أن يكون قد جاء عفو المصادفة، فكيف يمكن أن تتقبل عقولهم وجود هذا الكون العظيم، في نظامه الدقيق، أن يكون قد جاء بالمصادفة والعفوية. إن تصور ذلك تخلفٌ عقليٌ ومعاندةٌ للعلم والحقائق.


ولذلك فإنني أدعو أولئك الناس إلى أن يعملوا تفكيرهم. فالأمر جد! اليوم أنت موجود وغداً ستموت! أنت لم تخلق عبثاً، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ* فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ) تعالى أن يكون خلقه للكون عبثاً، وخلقه لنا عبثاً. ألم يعطك العقل لكي تفكر به! أعطاك العقل لكي تهتدي به! لم يخلقك عبثاً! حملك المسؤولية، وأرسل إليك الرسل! ففكر ملياً في نفسك وفي الكون وفي مصيرك ومآلك!


هذه هي رسالة هذا الدين إلى الجميع؛ إلى من حرر عقله من التخلف والمعاندة والإلحاد. وكذلك لمن آمن أن يكون إيمانه إيماناً كاملاً يدرك به أن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليخلق الإنسان متميزاً بما قد ميزه به عبثاً. لا بد أن يتحمل مسؤولية تصرفاته وفقاً لنظامٍ أنزله الله بأن يصحح عقيدته وفهمه لهذه الكون. يصحح سلوكه وتصرفاته. يصحح علاقته مع الخالق والمخلوق، لكي يصل من خلال ذلك كله إلى السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.


أسأل الله أن يبصرنا بحقائق ديننا وأن يهدينا سواء السبيل.  أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة