مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 02/04/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 2 / 4/ 2021

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ويقول النبي ﷺ فيما رواه مسلم: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّار، وصُفّدتِ الشَّيَاطِينُ".


أيّها المسلمون؛ خصّ ربنا تبارك وتعالى شهر رمضان بذكره بالاسم في كتابه، وذلك تنويهٌ منه سبحانه لعظيم شأن هذا الشهر وكبير منزلته وكونه الموسم الذي ينبغي أن نحرص عليه، فلياليه فيها التراويح وأيامه فيها الصيام. وهو موسمٌ أشار الله U إلى أنه قد نزل فيه القرآن -أي: أن له منزلةً تختلف عن منزلة الشهور كلها. موسمٌ ربنا تبارك وتعالى أكرمنا به؛ هو شهر الرحمة، شهر المغفرة، شهر التوبة، شهر الصبر والصوم.


والصوم كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "الصوم لي وأنا الذي أجزي به" ويقول تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). هو شهر الإخلاص لأن المرء يصوم ولا تفرق في مشهده ومنظره بينه وبين المفطر. إنما يصوم لوجه الله تعالى. يمسك عن طعامه وشرابه ومشتهياته ابتغاء رضوان الله سبحانه. شهر التنافس في الطاعات والتسابق إلى القربات، شهر التسامح والتواصل، شهرٌ تعود فيه العلاقات فيما بين الناس إلى الوضع السديد الذي يرضي الله تعالى.


هذا هو شهر رمضان، فكيف نستقبله؟ فما هي الأمور التي ينبغي أن نعدها لاستقبال هذا الشهر؟ غنيٌ عن البيان أن من أعظم الأمور التي ينبغي أن نحرص عليها في استقبال هذا الشهر العظيم أن نتعلم أحكامه؛ أن نعود بالذاكرة إلى ما قد قرأنا وسمعنا من أحكام هذا الشهر وقيامه، أن نعرف شروط الصوم وأحكامه ومبطلاته ومفسداته، كل ذلك ينبغي أن نعود فنراجعه. وهناك أمورٌ تخص المرأة في هذا الباب، ينبغي أن تكون حريصةً على معرفتها، حريصةً على تعلمها، كلنا ينبغي بمقدار اهتمامنا بهذا الشهر أن نهتم بأحكامه، وأن نتعلم شروط الصيام وأركانه ومفسداته ومبطلاته. كما ينبغي أن نتعلم ما ينبغي أن نبذل فيه من الجهد في القربات، من تلاوة القرآن لأنه الشهر الذي نوه الله U فيه بأنه نزل فيه القرآن، فينبغي أن نوثق الصلة بيننا وبين القرآن في هذا الشهر.


هذا الشهر تسمو فيه الروح وتنشط فيه النفوس للطاعات والقربات والبذل والعطاء. شهرٌ تسعد فيه الأسر كما لا تسعد في غيره، لأن الفرصة فيه أوفر من أجل اجتماع العائلة على الفطور والسحور، واجتماع العائلة سببٌ لتوثيق الوشائج والروابط فيما بين أفرادها. والأمر الطبيعي أن تكون العائلة دائماً على حالةٍ من الاجتماع والتواصل. ولكن شهر رمضان فيه من الظروف والأسباب ما يجعل الأسرة أكثر تواصلاً واجتماعاً ووئاماً إذا كانت على النهج السديد.


هذا شهرٌ تسعد فيه الأسر بهذا التواصل ويتراحم فيه الناس وتزكو فيه النفوس ويكثر فيه البذل ويكثر فيه العطاء. كثيرٌ من الناس يجعل زكاته في شهر رمضان، مع العلم بأن الزكاة ليست مرتبطةً بشهر رمضان، نعم زكاة الفطر مرتبطة بشهر رمضان. اما الزكاة مرتبطةٌ بسبب الحول عندما يتوفر لديك النصاب ويحول عليه الحول، سواءٌ في محرم أو شعبان أو ذي الحجة أو في غيرها، عندئذٍ ينبغي أن تؤدي الزكاة التي عليك، فإذا عجلتها في رمضان فلا بأس ولكن لا تأخرها إلى رمضان. وهو شهرٌ يتواصل فيه من سادت علاقاتهم حالة الجفاء فتصفو القلوب وتتسامح النفوس وتعود العلاقة فيما بينهم على النحو الذي يرضي الله U. ما ينبغي أن يكون بيننا جفاء، ولا قطيعة،ـ وما ينبغي أن نسمح للشيطان أن ينزغ بيننا.


مررنا بفترةٍ، وللأسف، كنا خاضعين فيها لنزغ الشيطان، فبث فيما بيننا الكراهية والجفاء، بل بث فيما بيننا عوامل الصراع والخلاف والكراهية والقتل وسفك الدماء. ما بهذا أمرنا الله U بل! أمرنا الله U بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ما قال أفسدوا بين أخويكم. وقال سبحانه: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا). في رمضان ينبغي أن تعود القلوب فيه إلى صفائها وأن تعود المودة والمحبة إلى النفوس مرةً أخرى، بعد حالةٍ من الجفاء سادت فيما بين الناس. ما ينبغي أن نسمح للقطيعة والجفاء أن تسود فيما بين أبناء المجتمع.


يقول علماؤنا: "التخلية قبل التحلية". هذه كلمةٌ عظيمةٌ لها دلالةٌ كبيرة. ويقصدون بها أن تخلية النفوس من أدرانها ينبغي أن تكون قبل إضفاء القربات والحسنات والبركات عليها. ولكي تتضح الصورة أكثر، أقول: لو أننا أتينا بألذ وأفخر أنواع الطعام فوضعناه في إناءٍ قذر، ما مآله؟ تعافه النفوس ويفسد الطعام ولا يمكن أن يستفيد منه أحد. وهذا شأننا إذا لم نعد إلى هذه القلوب وإلى جوارحنا فنطهرها من الذنوب. بأن نعود إلى أنفسنا فنحاسبها وإلى قلوبنا فننقيها من الأحقاد والحسد والضغينة والكبر. ذلك لأن أمراض القلب تفسد علينا صيامنا بل تفسد علينا حياتنا. لذلك، ينبغي أن نبدأ فنطهر هذه القلوب ونطهر هذه الجوارح من الآثام والذنوب. إن كان اللسان أو كانت اليد أو كانت العين أو كانت الأذن؛ هذه الجوارح إن كانت قذرةً بما ارتكب بها من آثام. فإنه يجب أن نعود إلى ربنا فنتوب. أقول هذا لنفسي وأقوله لكل من يسمعني: يجب أن نعود إلى أنفسنا فنطهرها. والله لئن طهرنا قلوبنا وجوارحنا من الذنوب والآثام والأمراض ليصلحن الله حالنا وليفرجن الله عنا!


وشهر رمضان شهر التراحم.. شهر الصفاء.. شهرٌ ينبغي أن تنقى فيه القلوب، وتسمو فيه النفوس إلى رضوان الله U. وذلك بالتخلية بتطهير قلوبنا وجوارحنا بالتوبة الصادقة. وقد تكرر الكلام عن شروط التوبة؛ وهي ثلاثة شروطٍ بالنسبة لحقوق الله: أن ندع الإثم، ونقلع عنه، هذا الشرط الأول. إذا كنت أرتكب الذنب وأقول أثناء ارتكابه: "استغفر الله" هذه عبارة فيها قلة أدب مع الله. أول أمرٍ ينبغي أن نبدأ به أن نقلع عن الذنب. والشيء الثاني: أن يكون لدينا شعورٌ صادق وحرقةٌ في قلوبنا بالندم على ما بدر منا. والشيء الثالث: عزمٌ أكيدٌ ألا نعود إلى ذلك.  هذه الشروط بالنظر إلى الذنوب جميعها، لا سيما فيما بيننا وبين الله. أما إذا كانت بيننا وبين العباد، بيننا وبين إخواننا، أو بيننا وبين أرحامنا، أو بيننا وبين متعاملينا؛ فإن ثمة شرطاً رابعاً يضاف إليها، وهو أن نرد الحقوق إلى أصحابها وأن يتسامح الناس فيما بينهم.


هذه هي التخلية؛ لكي تصبح قلوبنا مرآتها نقية، ولكي تصبح جوارحنا طاهرة في استقبالنا لشهر رمضان، وفي توجه ألسنتنا إلى الله ونحن ندعو ونتضرع إليه، أن تكون هذه الألسنة نقية طاهرة من الغيبة والنميمة والسب والشتم وغير ذلك من الذنوب. وأن تكون القلوب طاهرةً كما ذكرنا من الحقد والحسد والكبر وغيرها. هذه هي التخلية قبل التحلية كما ذكرنا.


أيها المسلمون؛ إننا نعاني من مصاعب قاسية، لا يخفى ذلك على أحد. أمتنا تمر في أسباب معيشتها ومتطلبات حياتها بظروف ومصاعب قاسية جداً، ولا شك أن أيدي قذرة تتآمر على هذه الأمة وعلى هذه البلاد. إلا أن ذلك أيضاً هو نتيجة ذنوبنا، ونتيجة أعمالنا، نتيجة آثامنا؛ هل عدنا إلى الله U فحاسبنا أنفسنا؟


لو أن كلاً منا عاد إلى نفسه، إلى بيته، إلى أسرته، فنظر في الوضع الذي يعيشه؛ في سلوكه الشخصي، في عباداته، في معاملاته، في تحمله لمسؤولياته عن أسرته. هل أدينا الحقوق التي علينا وتجنبنا المحظورات التي منعنا منها ربنا؟ أعتقد أننا بحاجةٍ إلى عودةٍ صادقةٍ إلى ذواتنا لكي نقول: "يا رب ظلمنا انفسنا واعترفنا بذنوبنا وها نحن نقف على بابك وعلى أعتابك.. قد تبنا إليك" وكما سبق انذكرت: بالشروط التي قد ذكرتها "قد عدنا إليك.. اللهم ففرج عنا ما نحن فيه.. اللهم اكشف عنا من الشدائد ما لا يكشفه عنا إلا أنت. تآمرت الدنيا علينا ولكنا لا نخشى أحداً إن كان الله معنا.


كن مع ربك U ليكون الله معك. لنعد إلى الله U، ليعود علينا بالرحمة! إن الله U يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ما قال: ما يغير ما بقومٍ من خيرٍ، بل لا يغير حالنا من خيرٍ وسعادةٍ وبركةٍ وسعة إلى ضيقٍ، إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا؛ ولا يغير حالنا من ضيقٍ وضنكٍ وشدة إلى رخاء إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا من فساد وذنوبٍ وآثام. لذلك، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وقال سبحانه: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) كلنا ينبغي أن نعود إلى أنفسنا ونقف بين يدي ربنا بصدق، ونقول: عدنا إليك يا الله.. عدنا إليك يا رب فاقبل عودتنا.


أخيراً أقول: أيها السلمون؛ إن شياطين الإنس والجن، وشياطين الإنس بالذات، تستنفر في رمضان. لكي تبث أنواع المفاسد عبر وسائل التواصل والإعلام، بغية إفساد الأمة ونشر الموبقات والفجور. تنشط في العام كله لتبث من المفاسد ما يستهدف دينكم وأخلاقكم وأولادكم وسلامة أعراضكم وأسركم، تبذل جهداً كبيراً جداً بشكلٍ مدروس خبيثٍ جداً، لكي تنشر المفاسد والفجور والإباحية في المجتمع، لكي تفسد الابن والبنت على أبيهما وأمهما، لكي تنشر العقوق وتنشر الفسق والفجور.  هل لنا أن نقنن العلاقة بيننا وبين هذه الشاشة؟ ونضبط الأمور لنحمي أنفسنا ونحمي أسرنا ونحمي أبنائنا وبناتنا؟ لا ينبغي أن يكون هذا الشهر المبارك فرصةً للانصراف عن الله، بل ينبغي أن ننصرف إلى باب الله.. إلى أعتاب الله.. إلى التضرع إلى الله U.. نهاره صبر وصيام وليله تراويح وقيام! هذه أيام مباركة ما ينبغي أن نفرط بها!


أسأل الله ان يردنا إلى دينه رداً جميلاً.       أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي