مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/03/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 19 / 3 / 2021

أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)، ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، ويقول في موضع آخر: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، ويقول الله الله جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا).


أيها المسلمون؛ عشر سنواتٍ عجاف مرت على فتنةٍ طافت بهذه البلاد، فسالت بسببها الدماء وانتشر بسببها الدمار وأعقبتها التبعات الرهيبة من أزماتٍ اقتصادية خانقة وتشردٍ ودمارٍ واضطرابٍ في البناء الاجتماعي الذي نعيش فيه. نعم، حتى كره الأخ أخاه، واعتدى الجار على جاره، وصرنا في حالةٍ بائسةٍ بسبب هذه الفتنة السوداء.


وثمان سنواتٌ مرت على استشهاد من كان يقف على هذا المنبر بحرقةٍ.. بأسى.. بحرص.. ينصح ويعظ ويبين حكم الله في مجريات الأحداث، ويبين ما ينبغي أن يكون عليه حالنا بكل رقةٍ وبكل محبةٍ ورحمةٍ. مستدلاً بالأدلة، موضحاً الحكم الشرعي مؤيداً بنصوص الأحاديث وكلام الأئمة. نعم، عشر سنواتٍ على الفتنة وثمان سنواتٍ على استشهاد من كانت له يدٌ بيضاءٌ في لجم هذه الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولا زلنا نعاني من تداعياتها وإلى الله الملتجأ وإليه المشتكى.


ترى أيها المسلمون، ماذا يجب علينا أن نفعل لكي نتجنب المزيد من تداعيات هذه الفتنة ولئلا نقع في مثيلاتها؟


ثلاثة أمور هي في غاية الأهمية بالنسبة لنا وبالنسبة لكل مسلمٍ حيثما كان:


 الأمر الأول؛ العلم والأمر الثاني؛ الوعي والأمر الثالث؛ التقوى.


أما العلم فهو الذي يبصرك بحكم الله تعالى في جميع أحوالك الخاصة والعامة؛ في شؤونك التي تتعلق بعباداتك ومعاملاتك وأسرتك وعلاقاتك الاجتماعية، وفي مواقفك مما قد يطوف بك من أمورٍ وأحداثٍ قد تكون في غاية الخطر إن لم تدرك حكم الله فيها.


أجل، لقد أوضح - رحمه الله - حكم الله في مجريات الأحداث التي تطوف بنا. فذكر حكم الله في الخروج على ولي الأمر ونقل إجماع العلماء عن الإمام النووي وغيره من كبار الأئمة؛ على أن الخروج على ولي الأمر حرامٌ شرعاً وأيد ذلك بأدلةٍ منها قوله ﷺ فيما رواه مسلم ٌفي صحيحه: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات فميته جاهلية" وقوله ﷺ: "من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فقتل فقتلته جاهلية" "ومن قاتل تحت رايةٍ عُمّية..- وكلهم كان يقاتل تحت رايةٍ عُمّية، أجل وهم اليوم أدرى بذلك، وإن كابروا،-  ..ومن قاتل تحت رايةٍ عُمّية - يقاتل لعصبةٍ أو يغضب لعصبةٍ - فقتل فقتلته جاهلية".


هذا حكمٌ من الأحكام التي كان يوردها وهي ليست من أرائه أو بنات أفكاره أو وجهة نظره؛ إنها حكم الشرع في مجريات الأحداث التي تطوف بنا، والتي على كل مسلمٍ أن يرجع إليها. قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أين نحن من هذه الآية؟ أين نحن من قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)؟ أين نحن من قوله تعالى: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)؟ كل هذه الإرشادات توجهنا إلى أن نتفيأ ظلال إرشاد النبي ﷺ وكيف وجهنا إلى مخاطر ستأتي من بعده تمزق الأمة وتوقعها في شر أعمالها وفي أسوأ نتائج ما قد يقومون به.العلم بحكم الله تعالى في المواقف وفي العلاقات وفي التصرفات.


والأمر الثاني هو الوعي؛ وقد ذكرت الوعي قبل التقوى! الوعي أن يدرك الإنسان المخاطر التي تطوف بالأمة والمكائد التي تحاك ضدها ليكون على بينةٍ من أمره وعلى معرفةٍ في مواطئ أقدامه، فلا ينحرف ذات اليمين ولا ذات الشمال بل يتشبث بهدي الله وهدي رسول الله ﷺ. 


لقد تبين لكل ذي عقلٍ أن ما جرى كان مكائد دولية تراد لهذا الوطن وللأمة برمتها، ولكن من خلال أبناء هذا الوطن. أريد لهذا الوطن أن يكون ممزقاً، مشتتاً، عبرة لمن يريد أن يرفض مكائد العدو ومكر الماكرين. ولكن لو أننا كنا على بينةٍ من أمرنا وأصغينا إلى النصح، وبعد لو لا داعي لاستدراك ما مضى! ولكن ألم نصغ إلى اعتراف أدوات هذا المكر كيف وصفوا سورية بأنها مصيدة أفلتت من أيديهم؟! أما سمعتم كلامهم؟! أما سمعتم اعترافهم أنها مصيدة أفلتت من أيديهم؟! طبعاً، هم سينتقمون من هذه المصيدة التي أفلتت، ولكن حكم الله تعالى غالبٌ على أمره. ولا بد أن تحقق هذه الأمة بعون الله وبعودتها إلى ربها - بإذن الله تعالى - عافيتها.


نعم؛ أيها المسلمون نحن نعاني اليوم من آلامٍ ممضة، من شدائد قاسية. ولكن، كم قال خطيب هذا المنبر: (توبوا إلى الله) لكي يفرج الله عن هذه الأمة. نصح جميع أبناء هذه الأمة من قادةٍ إلى سياسيين إلى اقتصاديين إلى رعيةٍ إلى أفراد، أن يعودوا إلى الله U لكي يفرج الله عن هذه الأمة، وأناط ذلك بمدى العودة الصادقة إلى الله U والتوبة والإنابة إليه.


ونحن اليوم نؤكد ما كان قد ذكره، لأن ما ذكره إنما هو ما تضمنه كتاب الله ومقتضى إرشادات الله ورسوله ﷺ. ثم الأمر الآخر الذي أرشدنا إليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هو أن نتراحم وأن نتعاطف، وأن يأخذ القوي منا بيد الضعيف، والغني منا بيد الفقير، وأن ينظر كل منا إلى حال هذه الأمة نظرة إشفاق. العدو يمكر بنا ويحيك بنا المؤامرات إثر المؤامرات، ولكن الله غالبٌ على أمره إذا تبنا إليه، وإذا اتخذنا من أوامره وإرشاداته وشرعه كابحاً لنا وضابطاً لتصرفاتنا ومرشداً لنا.


لقد تجلى لكل ذي وعي أن ما طاف بنا إنما كان مكيدةً عالمية لها أهدافها ولا يتسع المقام لذكرها.


الأمر الثالث هو تقوى الله. الله تعالى يقول: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ويقول أيضاً: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).


ما هي التقوى؟ التقوى أن نلتزم أوامر سبحانه وتعالى وأن نجتنب نواهيه. كم من رجلٍ كان على درجةٍ من العلم وعلى درايةٍ ووعي، ولكن دناءة نفسه وضعف إرادته جعلت أقدامه تنزلق في المغريات والوعود وفي كثيرٍ من الأعطيات. كم من الناس كان على درجةٍ من العلم يعرف فيها حكم الله في وقائع الأمور وكم من رجلٍ من العلماء كان يدرك خطورة المؤامرة التي ترسم لبلادنا ولبلاد المسلمين، ومع ذلك لم يكن على درجةٍ من التقوى تجعله يتجنب الانزلاق في مزالقها وفي كثيرٍ من انحرافاتها ومخاطرها. آثر المغريات التي قدمت له على دينه وعلى وطنه وعلى أمته وعلى سلامتها وآثرها على عرضه أيضاً.


نعم، هذا الذي عانينا منه فهل من عودةٍ راشدةٍ إلى الله؟ هل من عودةٍ راشدةٍ إلى كتاب الله وسنة نبيه؟ هل من توبةٍ نتوب فيها إلى الله سبحانه ونندم على ما كان منا من تفريط، إن كان بحقوق الله U في شأن أسرتنا، أو بحقوق الله في المتعاملين معنا أو بحقوق الله تعالى في شأن هذه الأمة: هل من توبةٍ وعودةٍ راشدة؟ أقول هذا للجميع لكي نستيقظ ونؤوب إلى رشدنا والله سبحانه وتعالى يقول: (قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).


والله لئن تبنا وتاب الله علينا ليفرجنّ الله تعالى عنا، وليصلحنّ الله تعالى أوضاعنا، وليباركنّ الله تعالى في أرزاقنا، وليجعلنّ من المكائد مرتدةً إلى نحور أصحابها بإذن الله تعالى.


أسأل الله تعالى أن يجمع شملنا على ما يرضيه وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي