مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 12/03/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 12 / 3 / 2021

أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا جل شأنه في كتابه الكريم: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(. وقال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ). وقال ﷺ فيما صح عنه: "طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ".


أيها المسلمون؛ جعل الإسلام طلب العلم فريضةً أوجبها على كل إنسانٍ مكلف، ذكراً كان أم أنثى، وجعل من العلم باباً للوصول إلى حقائق هذا الدين. العلم مفتاح معرفتك لله U، والعلم مفتاح معرفتك لحقائق هذا الكون، لكي تتعامل مع هذا الكون الذي عهد إليك بعمرانه على نحوٍ صحيحٍ وسليم. وهذا ما أشارت إليه الآيات القرآنية التي تلوتها قبل قليل {وَلاَ تَقْفُ..}، أي:  لا تمشي وراء الدعاوى التي لا دليل عليها فقد آتاك الله U نوافذ تطل على المعرفة العلمية؛ السمع والبصر والفؤاد، والمراد بالفؤاد هنا العقل الذي يحاكم ويصل إلى الحقائق.


نعم، العلم سبيل معرفتك لله، وسبيل معرفتك لهذا الكون، ولذلك بدأ البيان الإلهي الذي تنزل على قلب النبي ﷺ آيات كتاب الله تعالى بقوله: {إِقرَأ}، ثم أتبع ذلك برموزٍ للعلم فقال: (‏‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، أشار إلى العلم وإلى الكتابة وإلى القراءة لأنها سبيل معرفتك لله U ولحقائق هذا الدين، وسبيل معرفتك لحقائق هذا الكون، لتبني العلاقة مع هذا الكون على أساسٍ علميّ، لا على ترهاتٍ وخرافاتٍ وخزعبلات.


ولذلك فقد بعث النبي ﷺ في أمةٍ سادت فيها الأمية وكان العالم غارقاً في أودية الجهل والترهات، مما نشر وأشاع في المجتمعات الإنسانية في ذلك العصر ألواناً من الخرافات والترهات. كانت هذه دعوةً للتخلص من هذا الجهل ومن ذلك الركام من الخرافات التي هيمنت على العقل الإنساني في المجتمعات الإنسانية في ذلك العصر.


ومن هذا المنطلق، بدأت الدعوة تنتشر واصطدمت مع ذوي العقول الجامدة الذين قالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ). حرر الإسلام العقل الإنساني من التبعية العمياء، وأراد للإنسان أن يفكر ويلج إلى المعرفة العلمية لكي يفهم حقيقة هذا الكون.


ولم يمضِ نصف قرنٍ من الزمن حتى كان الإسلام منتشراً في ثلث العالم بالكلمة الطيبة والدعوة الحكيمة. وغدت المساجد والمدارس تعج بطلبة العلم حتى برز في المجتمع الإسلامي علماء اشتهرت أسماؤهم في الحضارة الإنسانية، برز فيها علماء في الطب والهندسة والفلك والكيمياء والرياضيات. وإلى جانب ذلك، برز فيهم علماء في الفقه والأصول والحديث واللغة العربية، وفي شتى العلوم، بل كان من علماء العربية والشريعة من كانوا على جانبٍ عظيمٍ في العلوم الكونية والفلكية وغيرها كالإمام الرازي. وهذه العلوم التي انتعشت وانطلقت مراكبها في المجتمع الإسلامي أبرزت علماء كابن سينا وابن النفيس والرازي والخوارزمي ومريم الاسطرلابية والبيروني وابن الهيثم وغيرهم مما يضيق المجال عن ذكر أسماءهم.


هؤلاء انطلقوا في ميادين البحث العلمي وألفوا وكتبوا وغدت مؤلفاتهم وكتبهم أسساً حتى في الغرب سادت جامعاتهم ومؤسساتهم العلمية كتب هؤلاء العلماء، وانتحل كتبهم بعض المزيفين من أدعياء العلم في الغرب. طبعاً هذه النهضة كانت تطبيقاً لقوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ* وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) وقوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).


هذه الدعوة الحارة الجادة هي التي دفعت بالمجتمع الإسلامي لنهضةٍ علميةٍ عظميةٍ جداً. وعندما نقول الدين، إنما نعني الإسلام الذي بعث به سيدنا محمد ﷺ مصدقاً لمن سبقه من الأنبياء ومؤكداً على مضمون رسالة الأنبياء السابقين، فهو لم يأتِ منفرداً بل هو كان آخر قافلة الأنبياء الذين على أيديهم هداية البشرية والإنسانية.


كل الأنبياء التقوا على تحرير العقل! كل الأنبياء انطلقوا من الدعوة إلى التفكر والتدبر واستنهاض المعرفة في عقول الناس وفيما وهبهم الله تعالى من تفكير. هذه هي الدعوة التي جعلت هذا الإسلام سبباً لنهضة. ولكن عندما نقول الدين، نعني به هذا الدين.


وليس الدينَ الذي نصب بعض رجال الدين في الغرب أنفسهم أوصياء عليه، فتجلت بعض التناقضات بينهم وبين العقل الإنساني؛ فناصبوا العلم العداء وحاربوا المعرفة وناهضوا العلماء، فسجن من سجن وقتل من قتل من العلماء الذين رفضوا الوصاية على عقولهم، وحرروا أنفسهم من الجمود. لا سيما بعد أن رأوا النهضة التي وصل إليها المسلمون في ميادين العلم والمعرفة. هذا الأمر كان قد جرى ولكن ذلك ليس بسبب الدين وإنما بسبب سوء فهم من يوصفون بأنهم رجال دين.


إن من الظلم ومن الجور ومن الجهل والحماقة أن يقاس الإسلام الذي كان سبباً لنهضةٍ فريدةٍ في تاريخ الحضارة الإنسانية على ما جرى في العالم الغربي على أيدي رجالٍ نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين يسمون رجال دين.


الإسلام نهض بالعقل الإنساني وأوجد تقدماً علمياً فريداً على درجةٍ عظيمةٍ يشهد لها تاريخ الحضارة الإنسانية كله. ومن العجيب أن يوجد في مجتمعاتنا من يطالبون بأن تقوم ثورةٌ للإصلاح الديني في إسلامنا على غرار ما جرى في الغرب! أعتقد أن هذا لونٌ من الغباء والجهل بالإضافة إلى ما يخفي وراءه من الحقد الأعمى.


الدين عندنا تحريرٌ للعقل! وما يسمونه ديناً عندهم أسر للعقل وتقييد للعقل، فلا يقاس هذا على ذاك! ولكن الأنكى من ذلك أن يوجد فينا من يتنكر للحضارة الإسلامية العلمية التي وصلها المسلمون من خلال النهضة العلمية التي تحدثنا عنها والتي أشرنا إليها والتي يضيق المجال عن شرح تفاصيلها. أقول: الذين يتنكرون لهذه الحضارة ولهذا التقدم العلمي، سمعت واحداً من أعراب البادية يلبس ثوباً إعلامياً ثم يقول: ليس للمسلمين أو ليس للإسلام أثرٌ في النهضة العلمية الإنسانية! أقول: صحيح! صحيحٌ؛ إذا عهدنا بمعرفة تاريخنا إلى أمثال هذا الغبي الأحمق الحاقد الذي يعاني من عقدة الهزيمة الحضارية، من عقدة مركب النقص.


نحن اليوم لا نفتخر بذلك التاريخ الذي كان لنا. أقول: لا نفتخر. وليس من حقنا أن نفتخر، لأن الذي يفتخر ينبغي أن يسير على ذلك الدرب وينهج ذلك النهج، أما قد تركنا السبيل الذي سلكه سلفنا الصالح فيس من حقنا أن نفتخر. إن من حقنا أن نبكي على أنفسنا ونعود ونبادر إلى الطريق الذي سلكه سلفنا، لكي نستعيد مكانتنا على سطح هذه الأرض.


من حقنا أن نبكي على أنفسنا اليوم لأننا قد آل بنا الحال إلى هذه الدرجة من التخلف والضعف والتمزق والتشتت. دينٌ قال لنا: {وَاعْتَصِمُوا} بينما نحن نقول: (افترقوا)!


دين يقول لنا: {قُلِ انظُرُوا} ونحن نقول: (تخلفوا)!


هذا الدين ينبغي أن نعود إليه ليعيد لنا أمجادنا!


أن نعود إليه ليعيد لنا كرامتنا!


أن نعود إليه ليعيد لنا أخلاقنا وتقدمنا وحضارتنا.


أسأل الله تعالى أن يوقظ عقولنا وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي