مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 05/02/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 5 / 2 / 2021

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) ويقول سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ). ويقول سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ). ويقول النبي ﷺ: " من لا يَرحم لا يُرحم" ويقول ﷺ: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" ويقول ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(.


أيّها المسلمون؛ تعيش الأمة اليوم في حالةٍ من الضيق والشدة في أسباب معيشتها وفي سائر شؤونها. وفي مثل هذه الحالة - وحديثي إلى المؤمنين وليس إلى غيرهم- أقول: في مثل هذه الحالة، لنتأمل القواعد القرآنية بشأن هذا الواقع الذي نعيشه. فلقد استبدت بالناس حالةٌ من الضيق والكآبة والشدة، وضاقت منها الصدور واشتد بها الحال.


وواقعنا هذا يخضع لسنن إلهية؛ منها قوله سبحانه وتعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ). ومنها قوله سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) - الضنك هو الشدة، والأشد من ذلك قوله سبحانه: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ). إلا أن إلى جانب ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا). كل ذلك قد وعد الله تعالى به قوم نوح إن تابوا إلى الله U. وقوم نوح مثالٌ للاستكبار والعتو، ومع ذلك فتح لهم أبواب رحمته وأتاح لهم فرصة الرجوع إلى هديه.


من هذه السنن الإلهية قول النبي e: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" ويقولe: "لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا".


واليوم إذا تأملنا واقعنا، لا شك أن ظروفنا قاسية. هناك غلاءٌ وشدةٌ وظروفٌ قاسية وأزمات، إلا أن ذلك كله اقترن بأمرين الأمر؛ الأمر الأول: مما نشكر الله تبارك وتعالى عليه أن في أمتنا من أكرمهم الله U برقةٍ في القلب وسخاءٍ في اليد، فأحسوا بشعور الناس وآلامهم فبسطوا أيديهم بالبذل والعطاء. وكان لجهودهم آثارٌ مرئيةٌ ومشاهدة؛ رأيناها ولاحظناها ورأينا كم يتفقدون ويبحثون ويهتمون ويبذلون، لكنها جهودٌ فردية بلا شك.


وإلى جانب هؤلاء ظاهرةٌ مؤلمة؛ إنها ظاهرة الجشع! ظاهرة الأنانية! ظاهرة التغالي! سلوا أبناء مجتمعنا عن أولئك الذين اضطرتهم الأزمة إلى ترك بيوتهم واضطروا إلى المجيء إلى الظل الآمن، كم يطالبون بأجرٍ للسكن الذي اضطروا لاستئجاره وهم أصحاب بيوت؟ التغالي الخيالي الذي لا يتصور في أجور السكن!


انزلوا إلى الأسواق وانظروا كيف يتعامل كثير من الباعة مع المشترين.. الغلاء الفاحش! يقولون: نحن في حالة حصار وأزمة الدولار وغير ذلك. أقول: حصارٌ من الخارج، وجشعٌ في الداخل؟! ألا يكفينا أن العدو قد حاصرنا؟! أنضيف إلى ذلك ظلمنا لبعضنا؟! واستغلالنا لبعضنا؟! أين نحن من قوله ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن"؟ أين لمسات الرحمة التي ينبغي أن نتبادلها ونتعامل على أساسها؟


أما رأينا في سيرة المصطفى ﷺ، وفي غيرها وإلى عهدٍ قريب؛ كان أبناء بلادنا يفتحون قلوبهم وبيوتهم لمن اضطرتهم ظروفهم إلى النزوح أو الهجرة إلى غير ذلك؟ أما تذكرون ذلك؟ ما الذي جرى في الأمة؟ إلى أي حالٍ آلت أوضاعنا اليوم؟ قسوةٌ تجاه بعضنا، وشدةٌ لا تثير فينا مشاعر الشفقة على هذا الإنسان الذي اضطرته الفتنة التي استبدت ببلادنا أن يستأجر، فنغالي له في الأجر! ونبيع إنتاج بلادنا وعطاءها بأغلى الأسعار؛ نستغل حاجة الناس فنرفع الأسعار ونغالي! والمسألة هي عبارة عن مجرد جشع وعدم إحساسٍ بحالة الناس! أين نحن من الرحمة؟ أين نحن من قوله ﷺ: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"؟!


القاعدة القرآنية تقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ). إن من ِذكرِ الله أوامرَه، ومن ذكر الله نواهيه، ومن ذكر الله الفرائض التي أمرنا بها، ومن ذكر الله تعالى الشريعة التي أمرنا بالتزامها. انظروا إلى واقع الأمة؛ في كثيرٍ من أبناء مجتمعنا: من أكل أموالهم بينهم بالباطل، وأكل أموال اليتامى والاعتداء على حقوق الناس.


كل ذلك موجود ومشاهد، بل التهام الحصة الإرثية، إذا كان الوارث ضعيفاً والوارث الآخر قوياً، استبد القوي بالميراث فأكل حقوق الورثة الضعفاء سواءً كانوا نساءً أم كانوا أطفالاً أم غير ذلك، أليس هذا كله أمراً مشاهداً؟ أليس هذا واقعاً يستنزل غضب الله تعالى علينا؟ أليس هو مصداق قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي)-أي: أوامري ونواهيّ (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)؟ الضيق الذي نعاني منه هو منا وبسببنا.


 والله أيها المسلمون لو أننا تواسينا وتراحمنا لوجدنا أن أسباب الرحمة والسعة قد فتحت أبوابها علينا.


 أمامنا أمران نحن بحاجةٍ لهما؛ الأمر الأول عودةٌ راشدةٌ إلى الله في جميع أمورنا وشؤوننا؛ في صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وعبادتنا ومعاملاتنا وفي عدم التعدي على حقوق الآخرين، في الستر والتصون الذي أمر الله U به، في غض البصر عن المحرمات، في الحرص على حقوق الآخرين.


كل ذلك - كل أوامر الله تعالى ونواهيه - يجب أن تكون ميزاناً لحياتنا وقانوناً نلتزم به في شؤوننا. إذا ما طبقنا ذلك؛ فإن الله سبحانه يقول على لسان سيدنا نوح ما يصدق على كل الأمم: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) أجل عندئذ يبارك الله تعالى في الرزق ويبارك الله تعالى في العطاء وسنجد أن الأزمات كلها قد ولت بإذن الله تبارك وتعالى.


الأمر الآخر؛ أن تفيض قلوبنا رحمةً ببعضنا! أن تفيض مشاعرنا رأفةً ببعضنا! أن ننظر في حال هؤلاء المساكين. أقول: في وطننا والله الحمد من أعرفهم؛ يسعون هنا وهناك في البذل والعطاء ضمن الإمكانيات المتاحة لهم وبسخاء. هذا ينبغي أن يكون حالا ًعاماً؛ ينبغي أن يكون طريقةً في حياتنا ومنهجاً في سلوكنا وفي تصرفاتنا وفي علاقات أبناء مجتمعنا. نحن اليوم بحاجة إلى عودةٍ راشدةٍ إلى الله سبحانه وتعالى نصحح بها حالنا معه، وحالنا مع بعضنا وأن نتراحم ونتعاطف ونتواسى مصداق قوله ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".


أسأل الله أن يرزقنا حسن اتباع هديه وأن يرحم البلاد والعباد وأن يفرج عنا فرجاً قريباً، والفرج قادم بإذن الله تبارك وتعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة