مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/01/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 29 / 1 / 2021

أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وإذ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا).
أيّها المسلمون؛ تعد غزوة الأحزاب منعطفاً هاماً في سيرة المصطفى ﷺ من بعد الهجرة، إذ تحالفت ثلاثة قوى ضد النبي ﷺ وأصحابه. العدو التقليدي لهم؛ وهم المشركون، والعدو التاريخي الذي دأب على حياكة المؤامرات والمكر بالأمة؛ وهم اليهود الخونة، والفئة الثالثة التي تحالفت معهم وهم المنافقون. وهم العدو الذي يعيش بيننا ويتكلم بلغتنا ويلبس لباسنا، بل وقد يصلي معنا ولكنه مؤيدٌ لكل مكيدةٍ تراد بالأمة وتحاك ضدها.
أما سبب هذه الغزوة فهي أن النبي ﷺ أتى إلى بني النضير من اليهود في أمرٍ تقتضيه الصحيفة التي استبقت اليهود يتعايشون مع المسلمين كجزءٍ من مجتمع المدينة المنورة. جاء إليهم يطلب منهم أن ينفذوا بعض مقتضيات هذه الصحيفة. فرحبوا به وابتسموا له، ولكن كانت هناك وراء تلك الابتسامة والترحيب مكيدةٌ تستهدف حياة النبي ﷺ ومن معه من أصحابه، فقد أعدوا مكيدةً لاغتيال النبي ﷺ وهو فيما بين ظهرانيهم وقتله مع أصحابه.
هذا الذي فعلوه وقد بلّغه الله تعالى بمكيدتهم في اللحظة المناسبة. فنهض ومضى إلى المدينة المنورة وأرسل إليهم أنكم أردتم سوءاً ووضعتم مكيدةً لقتلي مع أصحابي، فلا مكان في المدينة المنورة للخونة والغادرين! وأمرهم بالجلاء عن المدينة.
والنفاق لا بد أن يظهر في هذه الحالة! فقد وقف رأس المنافقين يقول لهم: "لا تجلوا، فأنا معكم" وأعلن أنه سيقف إلى جانبهم وسيقاتل معهم كما أوضح الله  في قوله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ).
هذه هي سيرة المنافقين! يقفون مع العدو في اللحظة الحرجة، ويحاولون الإيقاع بالمسلمين ولكن النبي ﷺ حزم أمره وحسم الموقف، وجهز الصحابة لكي يحاصروا بني النضير أو أن يجلوا عن المدينة المنورة، ثم ما كان منهم في النهاية إلا أن خرجوا من المدينة المنورة فالمدينة أطهر من أن يكون فيها الخونة والغادرون.
خرج حيي بن أخطب وبنو النضير من المدينة المنورة، ولم تخرج مكائدهم! فقد ذهب إلى قريش فدعاهم إلى مقاتلة النبي ﷺ وأعلن أن بني النضير سيقفون معهم، ثم مضى إلى قبائل غطفان وبني فزارة وبني مرّة وألبهم جميعاً، فتحالفوا في عدة أحزاب وشكلوا جيشاً واحداً لمقاتلة النبي ﷺ قوامه عشرة آلاف مقاتل والذين مع النبي ﷺ لا يتجاوزون ثلاثة آلاف.
أبلغ رب العزّة جلّ شأنه نبيه المصطفى ﷺ بما قد عزمت عليه قريشٌ وغطفان والقبائل الأخرى في توجههم إلى المدينة المنورة للقضاء على النبي ﷺ وأصحابه. فاستشار الصحابة الكرام، فأشار عليه سلمان الفارسي  أن يحفروا الخندق لأن الفرس فيما إذا تعرضوا لمثل هذا الأمر كانوا يحفرون خندقاً يحول بين العدو وبين المدينة التي هم فيها. وبادر النبي ﷺ إلى تنفيذ ما أشار به سيدنا سلمان . وقام قبل أصحابه بادئاً بحفر الخندق بهمةٍ ونشاطٍ، وقام الصحابة الكرام يقولون: "لئن قعدنا والنبي يعمل لذلك منا العمل المضلل" فنهضوا مع النبي ﷺ وكانوا رضي الله تعالى عنهم إذا ما اعترضتهم صخرةٌ شديدةٌ لجأوا إلى رسول الله ﷺ. فقد روي البخاري عن جابرٍ  أنه قال: "إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية – أي: صخرةٌ شديدة، فجاؤوا النبي ﷺ فقالوا: هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازلٌ -أي: لها – فقام رسول الله وبطنه مربوطٌ بحجر، فقد لبثنا ثلاثة أيامٍ لا نذوق ذواقاً؛ أي ما ذاقوا الطعام قط ثلاثة أيام. فأخذ النبي ﷺ المعول فضرب فعادت الكدية كثيباً أهيل" –أي: كأنها رمال-  ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
هذا كان حال المسلمين مع النبي ﷺ يواصلون الليل والنهار في حفر الخندق قبل أن يصل المشركون إلى المدينة المنورة. ووصل المشركون ففوجئوا عندما وجدوا الخندق يحول بينهم وبين دخول المدينة المنورة. فبدأوا يرمون المسلمين محاولين اقتحام الخندق، ويقف من الطرف الآخر الصحابة يرمون بالرماح والسهام كل من تسول له نفسه أن يحاول اقتحام الخندق.
وبقيت الرماية بين المسلمين والمشركين متواصلة حتى خيم الليل وغربت الشمس. فقال النبي ﷺ في ذلك: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى" -أي: صلاة العصر، لأن الرماية بشكلٍ متواصل لم تمكنهم من أن يصلوا العصر ففاتتهم، وقضوها بعد المغرب. هكذا كان حال المسلمين، فماذا كانت حالة المنافقين؟ أما المنافقون فكشأنهم؛ يتظاهرون أنهم مع الصحابة ثم يتسللون لِواذاً؛ تهربوا من حفر الخندق وتواروا هنا وهناك محاولين أن يتنصلوا ويعتذروا من واجب حفر الخندق، وواجب حماية المدينة المنورة من اقتحام المشركين. يقول الله تعالى في وصف المؤمنين: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) ووصف المنافقين بقوله: (وإذ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا). محاولين التشكيك في الإسلام والتشكيك بالنبي ﷺ والتشكيك بوعد الله  بالنصر، ويقومون بنشر الأراجيف والأخبار الكاذبة التي تثبط المسلمين وتضعف من عزيمتهم، فقد كانوا يحرصون على بث أنواع الأخبار التي تحطم معنويات المسلمين. يقول ربنا تبارك وتعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً). نعم لقد وصل الأمر بهم إلى أنهم كانوا على استعداد إلى فتح أبواب المدينة أمام المشركين والانقياد لرغباتهم. هذا العدو الداخلي الخطير الذي يثبط من همة الأمة ويحاول تشكيكها ويحاول أن يكون خلف المسلمين لصالح العدو. وهذا دأبهم تاريخياً وشأنهم اليوم وشأنهم في الأمس الغابر وشأنهم في المستقبل. أوضح الله لنا مواقفهم لنكون حذرين ممن يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ ممن يظهرون الولاء ويبطنون الخيانة. هذا ما كان منهم.
ثم إن حيي بن أخطب زعيم بني النضير عندما رأى الخندق، وأنه لا سبيل لدخول المشركين إلى المدينة مضى إلى الجهة المقابلة حيث كان يهود بني قريظة خلف المسلمين فأغراهم بالخيانة والغدر مع أنهم قالوا ما عاملنا محمدٌ إلا بصدقٍ وخير ولكن قال: "جئتكم بعز الدهر" ووصف لهم عدد المشركين الذين جاؤوا للقضاء على النبي ﷺ. فأعلنوا الخيانة وانضمامهم إلى الأحزاب يقول الله تعالى في وصف ذلك: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) وصلت الحالة بالمسلمين فيهم إلى هذه الدرجةٍ من الاضطراب.
ثم إنه في تلك الساعة جرى أمران اثنان. الأمر الأول؛ جاء نعيم بن مسعود المشرك ليعلن إسلامه  ويقول للنبي ﷺ: "مُرني بما شئت" فقال له النبي ﷺ: "إنما أنت واحد..ولكن خذل عنا ما استطعت" وكان ذا ذكاء، فمضى إلى المشركين وهم يظنونه لا يزال على شركه فقال لهم: "أوثقتم ببني قريظة؟"، وشككهم بموقف بني قريظة، وذهب إلى بني قريظة وقال لهم: "كيف تنقضون العهد وأنتم لا تطمئنون إلى ما قد يمكن أن يكون من محمدٍ وأصحابه مع قريش؟" ونصحهم بأن لا يثقوا بقريش، وأن يطلبوا منهم إمداداتٍ لكي يطمئنوا إلى موقفهم. فأضعف ذلك الثقة فيما بين المشركين واليهود.
والأمر الآخر هو أن الله  سلط على المشركين في تلك الليلة ريحاً عاصفةً شديدةً اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم ونشرت الذعر والرعب فيما بينهم، حتى وصل بأبي سفيان الأمر أن قال للمشركين: "لم يعد هذا المقام لنا مقاماً لقد هلكت الخف والحافر" أي: الخيل والجمال، وترون هذه الريح العاصفة ولم نعد نطمئن إلى موقف بني قريظة. إني امرؤٌ مرتحل فارتحلوا" فما كان منهم إلا أن مضوا وارتحلوا تاركين بني قريظة وحدهم، لكي يعاقبوا على ما قد ارتكبوا تجاه المسلمين.
قال ربنا تبارك وتعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) ويقول: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا* وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا). نعم؛ هذه عاقبة الخيانة والغدر ونتيجة العدوان.
عندما يتسلل الضعف واليأس إلى قلوب المسلمين، فليكن منهم مزيدٌ من الثقة بالله ومزيدٌ من التوكل عليه والالتجاء إليه، فإنه ليس بعد العسر إلا اليسر.. وإن النصر مع الصبر.. وإن الفرج مع الكرب.. وإن مع العسر – بأنواعه - يسراً إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي