مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 15/01/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 15 / 1 / 2021

أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، ويقول سبحانه: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}.


أيّها المسلمون؛ ابتلي المجتمع الإسلامي الأول في عهد النبوة في المدينة المنورة بظاهرتين خطيرتين كانت لهما آثارٌ قاسيةٌ على المسلمين؛ إنهما اليهود والمنافقون.


أما اليهود فعلى الرغم من أن النبي ﷺ عندما جاء المدينة وأمر بكتابة الصحيفة أو الوثيقة أو الأساس التي قام عليه المجتمع الإسلامي الأول تضمنت هذه الوثيقة أن يهود المدينة المنورة أمةٌ مع المؤمنين؛ للمسلمين دينهم ولليهود دينهم؛ وأنهم – المسلمين واليهود - يدٌ واحدة في وجه كل من يشكل خطراً على المدينة المنورة أو أهلها. أي أن النبي ﷺ أقرهم على دينهم وأعد المناخ للتعايش مع اليهود بشكلٍ طيبٍ ومنسجمٍ مع مقتضيات ذلك.


كانت لهم أسواقهم وكان النبي ﷺ يتعامل معهم وكان المسلمون يتعاملون معهم فهم طيفٌ من أطياف سكان المدينة المنورة. تعايشوا إلا أن نفسية اليهود تاريخياً لا يمكن إلا أن تظهر نفوسهم الدنيئة ويتجلى غدرهم وخيانتهم. بعد غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون، قال اليهود للنبي ﷺ: (يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس).


طيفٌ يعيش في المجتمع في المدينة المنورة له أسواقه ويعيش مع المسلمين ويتعاملون معهم حتى إن النبي ﷺ اشترى منهم وباع وأقرن واقترن كان معهم على أحسن ما يمكن أن يكون.


قالوا تلك الكلمة التي تتضمن معنى الكراهية والحقد وأضافوا إلى ذلك جريمةً شنيعة، إذ كانت امرأة من الأنصار في سوق بني قينقاع تشتري الذهب من صائغٍ يهودي فأساؤوا إليها إساءةً شنيعة أغضبت أحد الأنصار فثارت غيرته لما نال تلك المرأة من الأذى فقتل اليهودي الذي فعل ذلك فاجتمع اليهود عليه وقتلوه. هذا نقضٌ للعهد وخيانةٌ للوثيقة وخروجٌ عن مقتضى التعايش الآمن في المدينة المنورة. واقتضى ذلك أن يحاصرهم النبي ﷺ ويطردهم من المدينة المنورة.


المدينة المنورة كان فيها أوسٌ وخزرجٌ من العرب وكان فيها ثلاثة قبائل من اليهود؛ بنو قينقاع الذين فعلوا هذه الفعلة، وبنو النضير، وهم أسوأ حالاً منهم، وبنو قريظة، وهم الذين ارتكبوا الخيانة العظمى في أحلك الظروف التي عاشها المسلمون.


اليهود في المدينة المنورة عاملهم النبي ﷺ بوصفهم طيفاً من أطياف المدينة وإن كانوا قبل الإسلام يتوعدون العرب من الأوس والخزرج بنبيٍ ﷺ أظل زمانه سيتبعونه ويقاتلونهم معه قتل عادٍ وإرم وكانوا يحاولون إثارة النزاع والشقاق فيما بين الأوس والخزرج وفعلاً كان الأوس والخزرج مختلفين أشد الخلاف حتى جاء النبي ﷺ فعادوا إخوةً متحابين منسجمين مع بعضهم.


ضاق صدر اليهود الذين كانوا يعلمون ببعثة النبي ﷺ وبأنه قد أظل زمانه ويعرفونه كما يعرفون أبنائهم كما وصفهم الله عز وجل. لذلك تنكروا له حسداً وكراهيةً وضغينةً ورفضوا دعوته إلا أنهم بقوا في المدينة المنورة طيفاً يعيش مع أبناء المدينة كما كانوا من قبل. ولكن المدينة لا تتسع للخونة ولا مكان فيها للغادرين ناقضي العهود والمتنكرين للمواثيق والعيش المشترك. لذلك لم يكن من النبي ﷺ إزاء ما فعلت بني قينقاع إلا أن طردهم من المدينة المنورة.


أما بنو النضير وبنو قريظة فقد تسمح مناسبةٌ نتحدث فيها عن قصة غدرهم وعقوبة ذلك الغدر.


تاريخ اليهود قائمٌ على الخيانة والغدر أرأيتم كيف أن الله أنقذ اليهود من بطش فرعون واضطهاده على يد سيدنا موسى قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}. ربنا تبارك وتعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يمشي في عرض البحر بعد أن ضرب البحر فصار كل موجةٍ منه جبلاً أشم فمشى على يابسة البحر وتبعهم فرعون وكما قال سبحانه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ}.


غرق فرعون ونجى موسى. رأوا ذلك بأم أعينهم ورأوا أن الله أبطل سحر سحرة فرعون على يد سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام. فماذا كان منهم؟ كان منهم أنهم ما أن نجوا من فرعون ووصلوا مسافةً بعد ذلك إلى الأمان ومضى موسى عليه الصلاة والسلام لمناجاة ربه، حتى تنكروا لدعوته وعبدوا العجل.


ووصفوا معجزة سيدنا موسى بقولهم الذي نقله تعالى في الآية: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}- أي: سحرٌ غلب سحراً. وأساؤوا إلى موسى وتحدث الله عز وجل عن إساءاتهم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى إزاء سيدنا موسى وإزاء غيره حتى وصفهم المؤرخون بقتلة الأنبياء. أليسوا هم الذين قتلوا سيدنا يحيى عليه الصلاة والسلام. وقتلوا من قبله من قتلوهم. تاريخهم إلى اليوم هذا تاريخ الخيانة.. تاريخ الغدر.. تاريخ إثارة الوقيعة فيما بين الناس حتى أصدقائهم وحلفائهم. وهذا أمرٌ واضحٌ اليوم إزاء أصدقائهم وحلفائهم.


إذا بحثت عن اليهود فإنك تجد أنهم ورائهم أمرين؛ الأمر الأول: إثارة الفتنة والحروب. الأمر الثاني: نشر الفسق والمجون والفجور. ابحث عن ظاهرة الفجور والفسق والإباحية تجد أن الأصابع اليهودية وراءها. وابحث عن شرارة الحرب عندما تستعر وتتأجج تجد أن ورائها مكائد اليهود الذين يريدون أن يعيشوا على حطام الأمم وعلى أشلاء الشعوب.


نعم، ها هم اليهود في تاريخهم القذر.. صورةٌ للخيانة والغدر! صورة جعلت كثيراً من شعوب الأرض تشمئز منهم وتخشى فسادهم ومكرهم.


أما ظاهرة النفاق، عندما جاء النبي ﷺ إلى المدينة المنورة، كان عبد الله بن أبي بن سلول يطمح إلى أن يصبح زعيماً للمدينة المنورة وكان بوسعه أن يصبح زعيماً مع وجوه المدينة المنورة، لكنه أراد أن يكون زعيماً على الشرك والضلال، فضاق صدره بالإسلام والمسلمين وتظاهر بالإسلام ليحيك المؤامرات والمكائد وأنواع الفتن في المدينة المنورة.


عندما خان بنو قينقاع المجتمع الإسلامي وفعلوا ما فعلوه وحاصرهم النبي ﷺ وقف عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه إلى جانب اليهود ضد النبي ﷺ وفي هذا يقول ربنا تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.


فإن أخرجوا لا يخرجون معهم. هم أجبن من أن يقفوا موقف المواجهة؛ يعملون في الخفاء ولكنهم عند المواجهة هم أجبن من أن يواجهوا. هم يحيكون المؤامرات ويحاولون إثارة الوقيعة بين الناس؛ ألم يكونوا وراء اتهام سيدتنا عائشة رضي الله تعالى عنها بحديث الإفك؟! ألم يكونوا وراء تلك الكلمة التي قالها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول: ((لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ))؟! ويقصد بالأعز نفسه وجماعته ويقصد بالأذل المهاجرين والنبي ﷺ.


حتى تبرأ منه ولده عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وأتى إلى النبي ﷺ وعلم أن الكلمة التي قالها عبد الله بن أبي بن سلول كلمةٌ شنيعةٌ لا يمكن أن تغتفر له. قال له: يا رسول الله إن شئت أن تقتله فمرني فأضرب عنه، فقال: لا، بل نحسن معاملته ما عاش بيننا.


هو لم يجهر بالكفر ومن ثم فإن النبي ﷺ لم يكن ليعاقب إنساناً على ما في باطنه وعلى ما في قلبه. حتى إن هذه الظاهرة؛ هؤلاء المنافقين تآمروا مع الروم وبنوا وكراً للتآمر على الإسلام والمسلمين إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، سموه مسجداً وطلبوا من النبي ﷺ أن يصلي فيه، وما هو إلا وكر تآمرٍ على المدينة المنورة بصورة مسجد.


كان فيه عامر بن الراهب الذي كان يتجسس على المسلمين لصالح الروم ويحيك المؤامرات لصالح الروم. من الأداة؟ المنافقون. المنافقون مرضٌ خطيراٌ سرطانيٌ يشكل خطراً على الأمة طيلة حياتها والنفاق دائماً يتعامل مع العدو ضد الوطن وضد أبناءه.


ظاهرتان لا يعصمنا منهما إلا التربية الإيمانية الصادقة والوعي للمكائد التي تصوننا وتحمينا من غدر هؤلاء الأعداء ومن تآمرهم.


خطورة النفاق أنهم يعيشون بيننا ويتكلمون بلغتنا ومظهرهم كمظهرنا بل قد يأتون إلى مساجدنا ولكنهم وراء ذلك يرسمون المكائد ويتآمرون مع العدو ضد الأمة في عقر دارها.


نسأل الله أن يعصم أمتنا من مكائد اليهود وعملاءهم ومن شرٍ يمكن أن يحاك ضد أمتنا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد لأمتنا مجدها ويجمع كلمتها على الحق والهدى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي