مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/08/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي: الإنسان بين الحرية والعبودية

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 16 / 8 / 2019

أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقال سبحانه: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقال سبحانه: (كُتِبَ 

عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الحرّ بِالحرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ). وفي حديث للنبي e يرويه عن ربّه جل شأنه فيما رواه البخاري: ((ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي، ثم غَدَرَ، ورَجُلٌ بَاعَ حُرًّا، فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، ولَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ)).


أيّها المسلمون؛ تستوقفني في النّصوص التي قرأتها كلمة الحرّ والعبد. العلاقة بين الإنسان وبين الله U هي علاقة عبوديّة؛ بمعنى علاقة الخضوع القسريّ أو الاختياريّ. وكما سيتّضح فيما يأتي إن شاء الله تعالى.


علاقة الإنسان بالله U هي علاقة العبوديّة. هذه العبوديّة تنطق بها كلّ خليّةٍ من خلايا جسمك، وكلّ نبضةٍ من نبضات قلبك، وكلّ نَفسٍ يصعد أو يهبط بين حناياك؛ فأنت عبدٌ لله U شئت أم أبيت. وفي كتاب الله تعالى؛ كلمة "عبد" عندما يسبقها "يا" النداء، تحمل معنى الرّحمة كقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) وكقوله تعالى: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) وفي الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرّمَاً)).


كلّما وجدت كلمة عباد مسبقوة بـ"يا" النداء، فإنّها تحمل معنى الرّحمة. وهي أيضاً تحمل معنى العزّة.. تحمل معنى الكرامة. فالذي يكون عبداً لخالقه، تأبى هامته أن تنحني لغيره، وتأبى هامته أن تسجد إلا لمن خلقها. العبد لله لا يكون خاضعاً ذليلاً لغير من خلقه، وهامة من أقرّ بالعبوديّة لله هامةٌ مرتفعةٌ لا تنحني إلا لمن خلقها. نعم ورأينا كلمة "حرّ".. وكلمة "حرّ" هنا تشير إلى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فقد صدق عمر عندما قال: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!) أنت لست عبداً لأخيك. هو أخوك وليس مالكاً لأمرك ولا سيداً لشأنك. أمّا العبد بمعنى الرقيق، فموضوعٌ آخر لا علاقة له بسياق موضوعنا، وقد نتعرّض له في مناسبةٍ أخرى.


أقول: أنت عبدٌ منذ قدّر الله سبحانه وتعالى أن تكون ثمرة علاقةٍ مباركةٍ بين أبويك.. علاقةٍ طاهرةٍ بين أبويك. صرت نطفةً فعلقةً فمضغةً، تمرّ في مراحل لا سلطان لأبويك عليها، ولا لأمّك عليها، ولا اختيار لك فيها، فهل كنت حراً يومئذ؟! تغذّيتَ ونموتَ وأنت في رحم أمّك، كلّ لحظة من لحظات وجودك في رحم أمّك تقول لك: "أنت في قبضة من يرعاك ويتولى أمرك". ثم قدّر الله بعد ذلك بفترةٍ محددةٍ اقتضاها نظام الحياة والولادة أن تولد، ليس بإرادة أمّك ولا بإرادتك، ولكن بإرادة من نظّم شأنك في رحم أمّك، وقدّر لك فترةً محددةً تكون فيها في ظلّ عنايته في هذا الرّحم.


وانفصلت عن أمّك، وإذ بصدر أمّك يمتلئ غذاءً لك. هل هي التي صنعته أم أنت الذي صنعته؟ حدّثني بالله! أخبرني وكن حرّاً عندما تقرّ بالحقيقة.


إنّ الذي ملأ صدر أمك بغذائك هو الذي يتولّى أمرك؛ هو الذي أنت له عبد. تنطق كلّ لحظة من لحظات وجودك بالعبوديّة له. من الذي علّمك أن تلتقم ثدي أمّك؟! من الذي ألهمك أن تلتقم ثديها فتمتصّ ذلك الغذاء بإتقان؟ وأودع في قلب الأمّ حناناً عليك ليكون سبباً في رعايتك. ونَموتَ حتى إذا أصبحت بحاجةٍ إلى غذاءٍ إضافيٍّ؛ ولم يعد لبن أمّك كافياً، نَمَت لك أسنانٌ واستعدّت معدتك لاستقبال أغذيةٍ إضافيّةٍ تتكامل فيها احتياجاتك.


حدّثني.. هل هذه الأسنان زرعت من قبل أبويك؟ أم أنت زرعتها؟ أم إنّها من تدبير من يملك أمرك ومن إليه مصيرك ومن بيده الأمر كلّه. أنت عبدٌ.. عبدٌ ولست حراً.. إذا كنت حراً، فاملك أمر حياتك.


ثمّ ينمو هذا الجسم بنظامٍ غذائيّ عجيبٍ ليس لك سلطان عليه. ليس لك أيّ علاقةٍ أو تمكّنٍ أو تملّكٍ له. هذا الغذاء الذي التقمته بين فكّيك، انتهى سلطانك عليه ومضى إلى المعدة. هل أنت الذي أصدرت الأوامر إلى المعدة أن تصبّ العصارات الهاضمة إلى هذا الطعام؟ بل إنّك لا تدري بذلك ولا تشعر به ولا تعلم به. نعم؛ لأنّك في قبضة من يملك أمرك؛ فهل أنت حرٌّ في ذلك؟ أنت عبدٌ في ذلك. أنت خاضعٌ لمن يملك أمرك ويسيّر حياتك ويدبّر لك احتياجاتك ويرعاك أيّما رعاية.


وتشبّ عن الطّوق ويشتدّ منك السّاعد وتقوى منك إمكاناتك، فتظنّ أنك سيّد الموقف؛ فهل أنت كذلك؟ أرني نفسك عندما يتسلّل المرض إلى أوصالك، فترتفع حرارتك ويضعف جسمك وتوهن قوّتك، وتسارع من طبيبٍ إلى طبيبٍ ومن دواءٍ إلى دواءٍ؛ فهل أنت حرٌّ؟! حدّثني بصدق.. أنت عبدٌ في كل لحظةٍ من لحظاتك، منذ كنت في رحم أمّك إلى أن تشبّ عن الطّوق، وتظنّ نفسك قادراً وتظنّ نفسك سيداً وأنت في حقيقتك عبدٌ.


ثم إنّ هذه القوّة تضعف، وإنّ هذه الملكات تلين.. وإذا بك قد ضعفت منك القوى ولانت منك العزيمة، وشعرت بالشيخوخة تسري في كيانك، فهل أنت حرٌّ؟ هل أنت حرٌّ في ذلك؟ إذا كنت حراً فأبعد عن نفسك وهن الشيخوخة وضعف الجسم. قال تعالى: (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) قانونٌ أرساه من خلقك ومن أنت له عبدٌ. شئت أم أبيت.. رضيت أم كرهت.. أقررت أم بغبائك أنكرت.


نعم، كلّ ذلك بترتيبٍ عجيبٍ ونظامٍ مذهلٍ. والنّظام لا يأتي عن مصادفةٍ، النّظام لا يمكن أن يأتي عن عفويّةٍ ولا عن مصادفةٍ، بل عن تدبيرٍ وحكمةٍ وإرادةٍ وقدرة. فأنت في كلّ شؤونك وحياتك وهضمك ونموّك وتفكيرك وخلايا جسمك؛ أنت مظهرٌ للخضوع لله U.


أرأيت إلى ذلك البريد السّريع الذي يسري في كيانك؟ الدّورة الدّموية؛ هذا الدّم هو البريد السّريع الذي ينشر في أوصالك معنى الحياة، يأخذ الأوكسجين من الرّئة فيوزّعه إلى جميع خلايا جسمك، ويأخذ منها ثاني أكسيد الكربون ليطرحها عن طريق رئتك. وفي طريقه، في هذه المهمّة العجيبة في كل نبضةٍ من نبضات قلبك، يحمل الأغذية التي تصل إليه عن طريق المعدة والأمعاء، فينشرها في أوصال جسدك، يعطي كلّ جزءٍ احتياجاته. هل أنت في ذلك حرٌّ؟ أم أنت مظهرٌ لهيمنة خالقٍ حكيمٍ مدبّرٍ بيده الأمر كلّه؟ كن عاقلاً وكن حراً في إقرارك بأنك عبدٌ.


ولكن لست عبداً لإنسان. إنّ أحطّ مظاهر العبوديّة أن يكون الإنسان عبداً لهواه، عبداً لنزواته تسير به ذات اليمين وذات الشمال، وترمي به في أودية هلاكه. عندما يتحكّم هواه به، يشقيه ويهلكه ويدمّر عليه أسباب سعادته. أما وإنّك عاقلٌ فلا تكن عبداً لهواك، كن عبداً لمن يملك أمرك. كما لا ينبغي أن تكون عبداً لغيره.. لغير الله U، لأنّ من المهانة أن تكون عبداً لمن لا يملك أمره، فكيف تسلّمه أمرك؟ وكيف تذلّ نفسك لغير الله U؟ لإنسانٍ لا يملك أنفاسه ولا يملك حياته.


كن حراً.. وبمقدراً ما تكون عبداً لله أنت حرٌّ وسيّدٌ في هذا الكون. وبمقدار ما تكون جاهلاً لعبوديتك لله، أنت عبدٌّ مهينٌ لأهوائك أو لمن يستبدّ بك.


نعم؛ أقول: أنت عبدٌ لله بالقهر والاضطرار. فأوامر الله نوعان: أوامر تكوينيّة، تجري عليك ولا تُجريها، كالأمور التي شرحتها وبينتها؛ نموّك وهضمك وخلاياك ونشاط الدّورة الدّموية فيك ونشاط الأجهزة التي فيك، كلّها تأتمر بأمر الله U وهي مظهرٌ لحكمته وقراره الصّارم في إخضاعك لأوامره. هذه أوامر تكوينيّة، وهناك أوامر تكليفيّة. أنزلها الله U على أنبيائه لتنظّم حياتنا على النحو الذي ينسجم مع تكويننا، وينسجم مع بناء حياتنا لتكون سبباً لانسجامنا مع ذواتنا، لا مظهراً لاصطدام الإنسان مع حقيقة نفسه.


أسأل الله أن يلهمنا الرّشد وأن يرزقنا عبوديّةً ترفع هامتنا عن أن نذلّ لغيره، وتعزّ نفوسنا عن أن تنحني هاماتنا لغيره.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة