مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/08/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي: وقفة مع يوم عرفة

أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ( ويقول ربنا سبحانه:(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وقال e: ((الحج عرفة))، وروى أنس عن النبي e قال: ((كان النبي e يضحّي بكبشين وأنا أضحّي بكبشين)).


أيّها المسلمون؛ سبق أن تحدّثنا عن فضل عشر ذي الحجة، إذ قال e: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)). وذروة الفضل في هذا العشر في يوم عرفة، ألم يقل النبيe: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) وقد صحّ عن النبي e أنه قال: ((من صام يوم عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)) بمعنى أن الله سبحانه بكرمه وفضله يتجاوز عن الصّغائر التي ارتكبها الإنسان في غير ما يتعلق بحقوق الخلق عن سنةٍ ماضية، والمأمول أن يعصم العبد ويعينه ويتجاوز عنه فيما قد تزل فيه قدمه في السنة التي تلي.


جديرٌ بنا، أيّها المسلمون، أن نجعل من يوم عرفة يوم إقبالٍ على الله سبحانه وتعالى بالاستغفار والتوبة والإنابة وبإصلاح الحال وبالعودة الرّاشدة إلى الله جلّ شأنه، وأن نتوب إليه فيما يتعلق بحقوقٍ له سبحانه وتعالى أو بحقوقٍ للعباد. أما حقوق الله سبحانه وتعالى فالمأمول منه سبحانه أن يتجاوز عنّا وأن يغفرها لنا إذا صدقنا في الإنابة إليه. وأما حقوق الخلق فإن علينا أن نصدق في التوبة منها ونردّ الحقّ إلى أصحابه، وأن نستسمح من أصحابه. نعم، لا قيمة للتوبة فيما يتعلق بحقوق الخلق إلا بردّ الحقوق إلى أصحابها.


والأمر الآخر، هو أن نضاعف الجهد في التقرّب إلى الله صياماً وذكراً واستغفاراً وتلاوةً للقرآن، بقلوبٍ واجفة.. بقلوبٍ مقبلةٍ على الله U. فهذا اليوم من أعظم الأيام، صيامه والعبادة فيه غنيمةٌ من الغنائم التي ينبغي على الإنسان أن لا يفرّط بها. وجديرٌ بنا ونحن في كلّ يومٍ نقترب إلى آجالنا، أن نتزوّد للموقف بين يدي ربّنا سبحانه وتعالى.


لنتأمل فريضة الحجّ إلى بيت الله.. هل لنا أن نتأمّل بعض الشيء ذلك الموقف العظيم لضيوف الرّحمن المقبلين إلى بيت الله سبحانه وتعالى؟! إلى وادٍ غير ذي زرع، ليس المهم فيه أبنيته الشّامخة ولا مظاهر التّرف التي فيه، إنّما المهم أن نأتي الكعبة المشرّفة التي رفع قواعدها نبيّان: إبراهيم واسماعيل، بأمر من ربّ العزّة U قال تعالى:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وهل أعظم من أن يبنى بيتٌ بأمرٍ من الله ليكون رمزاً لتوحيده، ومستقطباً لقلوب المؤمنين المتّجهة إليه، ووجهةً في الصّلاة والدّعاء إذ نقف بين يديّ الله U حيث كنا نستقبل الكعبة المشرفة، لا نرى الكعبة في ذلك، نقول (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أما الكعبة فهي متّجهي إلى الله سبحانه تعالى. فالتعظيم كل التعظيم ليس للحجارة.. ليس للبيت بل لربّ البيت.. لرب الكعبة جلّ شأنه. والبيت قد اكتسب الشّرف والعظمة من هذه النّسبة، لما نسب الله U الكعبة إليه، وقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).


ونأتي إلى مكة، ونقبل إلى الكعبة المشرفة لنطوف.. أرأيت إلى تلك الملايين.. إلى مئات الألوف الذين يطوفون حول الكعبة المشرفة، يبدؤون بالحجر الأسود وينتهون بالحجر الأسود. ماذا فعلوا؟ فعلوا شيئاً واحداً.. إنهم امتثلوا أمر الله U إذ قال: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قائلين بلسان حالهم: لبيك يا رب، ها نحن قد أقبلنا إليك نطوف حول بيتك، مقبلين عليك بقلوبٍ واجفةٍ.. بقلوب متلهّفةٍ، قد تلهّفت وتشوّقت لرؤية كعبتك المشرّفة. واشتقاقت ولطالما اشتاقت، فتجاوزت العوائق والمصاعب، حتى وصلت إلى ذلك المكان المشرّف العظيم. نعم، دعاهم الله U فلبّوا النداء.. والنداء نداءٌ ربانيٌ أمر الله به سيدنا إبراهيم عندما قال له: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ). أرأيت إلى القلوب، منذ نادى إبراهيم.. هو لم ينادِ أناساً من حوله، نادى القلوب المتلهّفة لطاعة الله U وأذن في الناس بالحج.


لذلك تجد المؤمنين متلهّفين جميعاً أن يصلوا إلى الكعبة المشرّفة ويكحّلوا مآقيهم بالنّظر إليها. لا من أجل حجارتها، ولكن من أجل أنّها مستقطب قلوبهم إلى الله U ووجهتهم في الصّلاة والدّعاء إليه سبحانه وتعالى. ثم إنهم يطوفون حول البيت قائلين: (لبيك)، ويقولون (اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنّة نبيك محمد e. اللهم إن البيت بيتك والحرم حرمك وهذا مقام العائذ بك من النّار).. هذا المكان مقام الملتجئ إليك الخائف منك اللائذ بحماك.. (هذا مقام العائذ بك من النّار، فحرّمني على النار وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك واجعلني من أولياءك وأهل طاعتك).


بهذا النداء يطوف حول بيت الله تعالى مكرراً: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم.. فإنك أنت الأعزّ الأكرم) حتى إذا وصل إلى الرّكن اليماني قال: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). سبعة أشواط، يبتدئ بالحجر وينتهي إلى الحجر. يبتدئ بتلبية أمر الله وتنفيذ أمره، وينتهي قائلاً: (لبيك يا رب.. كما أمرتني امتثلت، وبما كلفتني طبقت ونفذت).


وتتجه الجموع بثيابٍ هي إلى الأكفان أقرب، متجرّدين عن المزايا والاختلافات، متقاربين متساوين.. الأمير والمأمور - هكذا ينبغي أن يكون - الغني والفقير.. الجميع.. العربي والأعجمي، الأبيض والأسود.. كلهم يلهج بلغةٍ واحدةٍ: (لبيك اللهم لبيك).


وحّد الله U هذه الأمّة ففرّقناها نحن بأهوائنا.. بنزعاتنا.. باختلافاتنا.. بمطامعنا.. بسياساتنا.. بولاءاتنا للأجنبي.. بالولاء لجهةٍ أو لأخرى. الولاء لا يكون إلا لله، والتلبية لا تكون إلا لأمر الله (لبيك اللهم لبيك لبيك.. لا شريك لك لبيك).


ويقفون يمضون إلى عرفة ليقفوا هناك، ويستقبلهم جبل الرّحمة، حيث وقف النّبي e فخطب خطبة الوداع. خطبة الوداع تلك لم تكن لهذه الصّحبة الكرام الذين كانوا من حوله، إنّما كانت خطبةً موجهةً لكلّ مسلمٍ على مرّ الأجيال. موجهةٌ إليهم وإلى من بعدهم، وإلى من بعدهم، وإلى الأمّة الإسلاميّة اليوم. يقول لهم: ((أي يوم هذا؟ قالوا: يومٌ حرام. قال: أي بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرام. قال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهرٌ حرام. فقال: إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)).


سلوا الذين يحملون السّلاح في وجوه إخوانهم.. ما موقفكم غداً بين يدي الله، إن سألكم عن هذا الكلام الذي قاله لنا رسول الله e؟! سلوا أولئك الذين يفتون بإراقة دماء المسلمين: ما موقفكم غدا بين يدي الله U إذ أهدرتم دماء إخوانكم، شرقاً وغرفاً.. وشمالاً وجنوباً؟! دماء المسلمين تراق بأيدي المسلمين، وللأسف، أو بأيدي أدعياء الإسلام. ألا ينبغي أن يراجعوا أنفسهم؟! ألا ينبغي أن يعودوا إلى رشدهم؟! أما ينبغي أن يغمدوا أسلحتهم، فلا يرفعوها إلا في وجه الغاصب الصهيوني الذي استباح المسجد الأقصى وأرض فلسطين؟! نسوا فلسطين ووجّهوا سيوفهم وأسلحتهم في وجوه إخوانهم وأبناء أمّتهم. لأولئك يقول النّبي e: ((اللهم فاشهد..)) أشهد الله سبحانه وتعالى على تلك الحقوق.. على تلك الدماء التي تراق من أجل محاور سياسيّة إرضاءً للشيطان، ولجند الشيطان ولأئمة الكفر ودول الطغيان.


نعم؛ بعد ذلك يسعون بين الصّفا والمروة. ماذا بين الصّفا والمروة؟ السّعي هنا ليس سعيٌ بين هضبتين؛ السّعي هنا سعيٌ حثيثٌ لتطبيق أمر الله.. لتنفيذ شرع الله، للعمل على وحدة هذه الأمة وجمع كلمتها، لنصرة الحقّ لا لنصرة الباطل. الذين يسعون في ظاهر أجسادهم في الصّفا والمروة، ولكن السّعي الحقيقي هو السّعي إرضاءً لله.. السّعي في تطبيق أمر الله.. السّعي في مرضاة ربنا سبحانه وتعالى، بجمع كلمة هذه الأمة.. بإصلاح أحوالنا.. بترميم بناء المجتمع الإسلامي الذي تمزّق وتهتّك بناؤه بالعودة إلى الله.


أسأل الله جل شأنه أن يلهمنا المعاني الكامنة في مناسك الحجّ.


علّمنا النبي e في خطبته تلك شيئاَ مهماً قال: ((لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)) ترجمةً لقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). ليس العرق الأنجلو-سكسوني الأشقر ذي العينين الزرقاوين، ولا للعربي على أخيه، ولا للأعجمي على أخيه، التّفاضل بين الناس بالعمل الصّالح.. التّفاضل بين الناس بالتقوى.. التّفاضل بين الناس بالاستقامة.. وليس بالألقاب ولا بالانتماءات.


ثم ائتمننا على المرأة فقال: ((واستوصوا بالنساء خيراً)) هي ليست سلعةً ولا دميةً للعبث بها ولا خادمةً. بل إنّ الله قد فضّلها على الرّجل أمّاً في كيان هذه الأسرة فقال لمن سأله: ((من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك)) نعم، هذا هو ديننا وهذه هي مكانة المرأة في مجتمعاتنا. ليست سلعةً يتاجر بها فتباع رقيقاً أبيض هنا وهناك، وإنما هي أمٌّ وسيّدةً؛ أمٌّ وزوجةً وأختٌ وبنتٌ. نصونها ونحميها ونرعاها ونكرمها ونجلّ مكانتها. هذا ما ائتمننا عليه رسول الله e.


أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والتقوى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة