مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 01/01/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 1 / 1 / 2021

أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) ويقول النبي ﷺ فيما صح عنه: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: حَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وشَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ" ويقول ربّنا جلّ شأنه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير* الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّه ُوَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).


أيّها المسلمون؛ عامٌ شمسي بكامله مضى من حياتنا كما مضت أعوامٌ قبله. وهذا الزمن يجري علينا ليشهد لنا أو ليشهد علينا. كم مِن مَن كان بيننا في السنة الماضية مضى إلى أجله خاضعاً لقرار الله الذي لا معقب له: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)؟! قرارٌ لا معقب له، أذل كبرياء المستكبرين ودمر طغيان الطغاة وسوى بين القوي والضعيف والغني والفقير. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.


أيّها المسلمون؛ ليس الخطر في الموت. هناك من يمكن لو أن الموت بيع لاشتراه! الخطر فيما بعد الموت؛ الخطر في المثول بين يدي الله جلّ شأنه، يوم تبدو السريرة علانية، يوم يُسلّم كتابه ويقال له: (اِقْرَأْ كِتَابك كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حَسِيبًا)


 فينظر في كتابه ويتأمل فيقول: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).


إن انتهاء عامٍ وابتداء عامٍ ليس مدعاةً لسرورٍ ولا مدعاةً لحزن، إنما هو تذكيرٌ للإنسان بأن حياته أيامٌ تمضي لا سبيل إلى استعادتها. تمضي به وتدنو يوماً بعد يومٍ إلى أجله. والمهم، ماذا أعد للمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى؟ هل كان يستثمر حياته في التقرب إلى الله والعمل الصالح البنّاء، في خدمة المجتمع وفي الأعمال الطيبة؟ أم إنه كان غافلاً عن معنى الحياة وأنها أعظم رأسمالٍ له يمكن أن يستثمره لكي يشتري بذلك سعادة الدنيا والآخرة؟!


انتهاء عام وابتداء عام ليس مدعاةً لسرور ولا لحزن؛ بل يقتضي منا أن نعود إلى أنفسنا وأن نفكر فيما قد ادخرنا لأنفسنا لآخرتنا. فاليوم عملٌ ولا حسابٌ، وغداً حسابٌ ولا عمل.


الأمر خطير وكلنا ينتظر ذلك الخطر، كلنا ذلك الإنسان الذي ينبغي أن يعود إلى نفسه ويفكر: ماذا أعددت لمستقبلي؟! انظر إلى التاجر العاقل، إذا انتهى عامٌ وابتدأ عامٌ، ماذا يفعل؟ يعود إلى سجلات حساباته فينظر في الربح والخسارة؛ يعود إلى مستودعاته فينظر ماذا في هذه المستودعات من كاسد البضاعة، وماذا قد باع ونجح في تجارته فيها؟ لكي يرسم خطةً للمستقبل تنسجم مع الفرصة المتاحة له في المستقبل. ونحن؛ مستقبلنا الأيام المتبقية من حياتنا ولا ندري كم بقي لنا منها. كلنا يعلم كم مضى من عمره لكن أينا يعلم كم بقي له من عمره ؟ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).


نعم (فإذا جاء أجلهم)..هناك يتمنى الإنسان لو أنه أُجّل ساعةً، يقول ربنا جل شأنه: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) ويقول النبي e: "لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعِ: عن عمرِه فيم أفناه، وعن جسده فيمَ أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسبه، وأين أنفقه، وعن عِلمِه هل عمِل به" الأمر جدّ والذي لا يريد أن يتدبر هذا الأمر ويتنكّر لمسؤوليته بين يدي الله U، إذ أودع فينا عقلاً نفكر به وإرادة نتوجه بها إلى مختاراتنا، إلى ما نراه خيراً لنا. ربنا تبارك وتعالى يقول: (قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) أجل كل عاقلٍ مكلف وكل مكلف مسؤول. فهل فكرت في موقف السؤال بين يدي الله U؟!


أسأل الله أن يردنا إلى رشدنا وأن نجعل من ابتداء عام وانتهاء عام ما يشحذ همتنا لمزيدٍ من التقرب إلى الله والإنابة إليه.


أيها المسلمون، كنا نستعرض صوراً من سيرة النبي e ولا أريد أن تنقطع سلسلة تأملاتنا في صفحات سيرة المصطفى e. ذكرنا أن النبي e هاجر إلى المدينة المنورة بصحبة الصديق t، وما أن وصل إلى المدينة المنورة حتى أرسى قواعد المجتمع الجديد. المجتمع الذي يقوم على العقيدة على المبدأ. أنهى القبلية والعرقية وغيرها وجعل الناس يجتمعون على المبادئ والمعتقدات وحمّلهم مسؤولية بعضهم وجعلهم إخوةً يتضامنون ويتكافلون في ظل هذا المجتمع. أجل أرسى قواعد المجتمع الجديد في المدينة المنورة.


هذا المجتمع مكونٌ من أناسٍ هم أبناء المدينة المنورة من الأوس والخزرج، ومكونٌ من فريقٍ آخر هم أولئك الذي اضطرهم ظلم قريش وطغاة الشرك، اضطرهم الاضطهاد والقمع والإساءة والظلم إلى أن يهاجروا ويخرجوا من مكة المكرمة تاركين كل شيء فارين بعقيدتهم، خرجوا وقلوبهم معلقة بمكة المكرمة. أما سمعت ما قاله النبي ﷺ وهو يودع مكة: "إنك أحب بلاد الله إلي" كيف لا؟ وهي بلده.. ومرابع صباه وشبابه. "إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت". يعز على المرء أن يخرج من وطنه، أن يخرج من بيته وأهله وجيرانه، ولولا الظلم لما خرجوا ولولا الاضطهاد لما خرجوا.


لذلك نقول: إنه قد أمضى النبي ﷺ في المدينة المنورة بضع سنوات ليعود إلى مكة منتصراً، ليعود إليها وقد أصبحت مستعدةً لتطهّر من الأصنام والأوثان. طهرها النبي ﷺ ثم يقول بلسان الحال لقريش وطغاتها وصناديد الشرك فيها: (هل نفعتكم أصنامكم؟ هل أجدت معكم خرافاتكم وترهاتكم؟).


ماذا يتوقع أحدنا من حق هؤلاء الناس الذين أخرجوا واستولى طغاة قريش على أموالهم وبيوتهم. أليس من حق هؤلاء أن يستعيدوا بعض حقوقهم؛ أن يستعيدوا ما استطاعوا أن يستعيدوه من حقوقهم وأموالهم. ولذلك نزل قوله تعالى معلناً أن من حقهم أن يدافعوا عن أنفسهم وأن يسعوا في استرداد تلك الحقوق التي اغتصبها المشركون. قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير* الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّه ُوَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).


لذلك جرت معركة بدر والوقائع التي بعدها والتي آمل أن تتاح الفرصة إن شاء الله أن نتمم ما جرى بعد ذلك للمسلمين.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة