مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/07/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 19 / 7 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 19 / 7 / 2019


أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون..


يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ *وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ويقول سبحانه: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ويقول سبحانه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) ويقول النبيّ لجبريل عندما سأله عن الإحسان: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).


أيّها المسلمون؛ إيماننا بالله سبحانه وتعالى ليس توارثاً، ولا تبعيةً للآباء أو الأجداد أو الكبراء. إيماننا بالله مبنيٌّ على أدلّةٍ وبراهينَ مُلزمة، انبثت دلائلها في أنفسنا وفي الكون من حولنا. من تدبّر وجد تلك الدلائل تلزم العقل بالإيمان بالله سبحانه وتعالى.


نعم؛ من خلال هذه الأدلّة، من خلال تأمّل الإنسان في نفسه، وتأمّل الإنسان في الكون الذي من حوله، دلائل تجعله ينصاع لقضية الإيمان بالله. بل يتجاوز ذلك، عندما يرى عظيم آلاء الله سبحانه وتعالى، وقدرته وحكمته ورحمته. يتحول الأمر من مجرّد إيمان، ليصبح حباً ورغبةً وحياءً وخشيةً من الله سبحانه وتعالى.


تأمّل في صفحة هذا الكون، تأمّل في نفسك، وانظر إلى آلائه في خلقك. تأمّل في صفحة هذا الكون، وانظر إلى ما تناثر على الأرض من حولك من أزهارٍ بديعة الألوان.. جميلة الأشكال..  شذية الرائحة.. فواحةٌ بالعطر من هذا التراب. قد أكرم الله هذه الأرض بثمارٍ يانعة، طاب مأكلها ولذّ طعمها، يقتات بها الإنسان فيتقبّلها ذوقه وتهضمها معدته. إذن لتكون غذاءً وقوتاً وسبباً لاستمرار حياته. أنت بمثل هذه النعم تبقى، وبمثل هذا الفضل والإحسان تعيش.


قد أودع الله تعالى في هذه الأرض أسباب بقاءك؛ ليس فقط أسباب بقاءك، بل جعلها محبّبةً إليك، لذيذة المطعم.. طيبة الرائحة.. جميلة الشكل، لكي تتقبّلها، فتنال بها أسباب عيشك وحياتك وأسباب وجودك. أرأيت كيف تحبّب الله إليك بكل ذلك؟! أين هو مجال المصادفة والعفوية في هذا الذي نقول؟!


 تأمّل في هذا الكون الذي تعيش فيه، وانظر بعد أن أطعمك وسقاك، كيف أنقذك الله من زوائد طعامك وشرابك، مما لا ينبغي أن يبقى في جسدك. تأمّل كيف يسّر الله تعالى انطراحه من جسدك وخروجه من بدنك؛ سمومٌ كان من الممكن أن تقتلك لو أنها بقيت في جسدك، يسّر الله تعالى انطراحها من جسدك، وعافاك الله تعالى منها. أرأيت لو احتبست فيك؟! لقتلتك...


ثم تأمّل؛ أرأيت لو أنّها خرجت منك بدون إرادتك، وفقدت السيطرة على آليّة خروجها من جسمك، كيف كان يمكن أن تعيش بين الناس وأنت بمثل هذه الحالة؟! أرأيت نعم الله تبارك وتعالى عليك؟! أوتغفل عنه؟! أين هي العفوية والمصادفة في هذا الذي نتحدث عنه؟!


تأمّل في صفحة هذا الكون. تأمّل في نفسك؛ ذاكرتك العجيبة.. توازنك.. مخيّلتك.. طاقاتك.. نومك.. استيقاظك.. كل ذلك. هذه الذاكرة التي زوّدك الله بها ليست ذاكرة الأحداث؛ ذاكرةٌ تحفظ الطعوم والألوان والأشكال والأصوات؛ صوتٌ لم تسمعه منذ عشر سنوات، على الهاتف تسمعه، فتتذكر فلاناً.


أرأيت إلى ما زودّك الله به من ذاكرة.. من قدراتٍ عقلية، من طاقاتٍ ذهنية، تجعلك تستطيع أن تبدع وتكتشف وتحلّل وتستنتج؟! كل ذلك قد أودعه الله فيك. أرأيت لو أنه جرّدك منها، حيث تصبح مبعث شفقةٍ، ويعجز الطب عن إنقاذك، فلا يجدي مع ذلك مالٌ ولا جاه! أليس جديراً بك أن تتذكّر فضل الله عليك؟! أين هي المصادفة أو العفوية في هذا كله؟!


سلوهم.. ممن جمدت عقولهم وتخلّف تفكيرهم عن فهم هذا كله. انظر إلى هذا الكون؛ إلى الليل والنهار.. إلى الشمس والقمر.. إلى كونٍ قد اتّسع حتى عجزت الأرقام عن أن تبيّن مدى اتّساعه. تأمّل تلك العلاقة العجيبة بين الأرض والشمس؛ حركتان إحداهما ينتظم بها الليل والنهار، والأخرى تنتظم بها الفصول والمواسم. أهي العفوية أم هي المصادفة؟!  التي وفّرت لهذا الكون أسباب الحياة.. أسباب الظّلمة والنّور.. أسباب العيش.. أسباب الدفئ.. كل ذلك لكي يوفّر من دلائل حكمته وعنايته لهذا الإنسان أسباب عيشه؟! أين هي المصادفة والعفوية من هذا النظام الذي نتحدث عنه؟!


ونحن بهذا لم ننظر إلا إلى زاويةٍ بسيطةٍ جداً لا تكاد تذكر من نظام هذا الكون الذي أذهل العقول اتساعه وعظمة نظامه، وإحكام ضطبه ونظامه. تأمّل أيّها الإنسان فيما أكرمك الله به مما لا يعدّ ولا يحصى. لا ينبغي أن تكون نِعم الله تعالى حجاباً بيننا وبينه؛ بل ينبغي أن تكون جسراً، يصل قلوبنا به سبحانه وتعالى.. جسراً يصل عقولنا به تزداد يقيناً به وتزداد محبةً له. لينقلب الأمر بنا من مجرد إيمانٍ عقليّ بقوله سبحانه تعالى:(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) اذكروني .. اذكروا نعَمي.. اذكروا آلائي.. اذكروا مظاهر قدرتي وحكمتي.. اذكروا قهري وجبروتي..  اذكروا عظمتي.. أذكركم بعفوي.. بمغفرتي.. بالثواب والأجر. اذكروني ذكراً يبعث فيكم حوافز الطّاعة.. حوافز المحبة..  حوافز الخشية والحياء منه سبحانه وتعالى. ليتحول الأمر بنا من مجرّد إيمانٍ عقليّ إلى إيمانٍ يضرب بجذوره في أعماق القلوب، فيتحول إلى حبٍ وخشيةٍ وحياءٍ ورغبةٍ ورهبةٍ إليه سبحانه وتعالى.


أسأل الله سبحانه أن يملأ قلوبنا إيماناً به ورغبةً إليه وخشيةً منه حتى نلقاه وهو راضٍ عنا.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة