مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 17/01/2020

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 17 / 1 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 17 /  1/ 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ويقول سبحانه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ويقول جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). وقال في شأن غزوة أحد: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ).


أيها المسلمون؛ توافق هذه الأيام من شهر جمادى ذكرى غزوةٍ من أخطر الغزوات التي وقعت في عهد النبوة؛ هي غزوة مؤتة. والتي كان سببها أن النبي ﷺ أرسل الحارث الأزدي t إلى ملك بصرى فما كان من ملك بصرى إلا أن عدا على مبعوث النبي ﷺ فقتله. وهذا أمرٌ مستهجنٌ ومستنكرٌ في العرف آنذاك، كما أنه مستهجنٌ ومستنكرٌ في الأعراف الدولية اليوم. إذ إن المبعوثين والرسل لا يُنال منهم، وإنما لهم حصانةٌ ينبغي أن تراعى. فأراد النبي ﷺ أن يؤدب ملك بصرى؛ فجهز جيشاً قوامه ثلاثة آلافٍ من الصحابة الكرام؛ ولم يخرج معهم، وإنما أمّر عليهم سيدنا زيد بن حارثة t.


ثم قال ﷺ: (فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليختر المسلمون لأنفسهم واحداً). وكأن النبي ﷺ كان يرى مستقبل هذه الغزوة قبل أن تقع. وتوجه المسلمون تنفيذاً لأمر النبي ﷺ، فما كان من ملك بصرى إلا أن جهز جيشاً قوامه مئة ألف، وآزره هرقل ملك الروم بمئة ألف آخرين. ووجد الصحابة أنفسهم كجدولٍ ماءٍ أمام بحرٍ متلاطم؛ ولكنهم كانوا واثقين بتأييد الله U ولهم أحد نتيجتين: إما النصر وإما الشهادة. فكانوا مطمئنين إلى أن الهدف الذي يسيرون إليه كان واضحاً ومعالمه بيّنة. ووقعت المعركة فعلاً، فاستشهد سيدنا زيد ووصف النبي ﷺ - وهو في المدينة بين أصحابه - وقائع المعركة. فقال: (حمل الراية زيدٌ فأصيب، ثم حمل الراية جعفر بن أبي طالبٍ فأصيب، ثم حمل الراية عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم حمل الراية سيفٌ من سيوف الله) وهو سيدنا خالد t ففتح الله على يديه.


سلك سيدنا خالد في قتاله لهم أسلوب الحيلة العسكرية، وتفاصيلها يضيق المقام عنها. فاندفع هو والصحابة الكرام نحو جيش الروم وعملائهم اندفاعاً صادقاً بقوةٍ وشجاعةٍ، فتقهقر الروم وعملاؤهم. واكتفى سيدنا خالد بأن رآهم انسحبوا وانكشفوا وتقهقروا، فلم يُجهِز عليهم؛ واكتفى بهذا القدر؛ حرصاً على الصحابة الذين كانوا معه، وتوفيراً لأقل عددٍ من الخسائر، ثم عاد إلى المدينة المنورة. ما هي إلا سنواتٌ قليلةٌ حتى فتح الله تعالى على المسلمين، فدكت حصون الروم والفرس بآنٍ واحدٍ.. ما هي إلا سنواتٌ قليلةٌ حتى تساقطت الدولتان تحت نعال المسلمين، وانهزموا متقهقرين. ومع قلة عدد المسلمين ووفرة عدد وعدّة أعدائهم انتصر المؤمنون..


وهذا الأمر يقتضينا أن نقف متأملين؛ كيف تمكنت هذه القلّة القليلة - إن كان في غزوة مؤتة، أو كان في المعارك التي تلتها من معارك الفتح الإسلامي - كيف تمكن هؤلاء على قلة عَددهم وعُددهم من أن ينتصروا في مواجهة أعدائهم؟!


ثمة مفاتيح للنصر.. وشروطٌ ينبغي أن نتأملها اليوم؛ فنحن اليوم بأشد الحاجة إليها.


الشرط الأول يتمثل في الآية القرآنية: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا).


إنهما أمران: الثبات في الموقف.. عدم التردد.. عدم التراجع.. عدم الخوف.. الإقدام مهما كانت التضحيات. والأمر الآخر؛ قلوبٌ متصلةٌ بالله.. مطيعةٌ لله.. واثقةٌ بتأييد الله.. عملاً بقوله سبحانه: (اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا). القلب المتصل بالله بالذكر.. بالصلاة.. بالعبادة.. بالدعاء.. بالتضرع.. بالاستغفار.. هذا القلب لا يمكن أن يجبُن في المعركة.. ولا يمكن أن ينهزم.. ولا يمكن أن يتردد؛ وإنما سيكون مقبلاً باسلاً شجاعاً مقداماً..لا ينهزم. لأنه واثقٌ بالله سبحانه وتعالى.. لأن قلبه موصولٌ بالله.. بذكره وعبادته والتجائه إلى الله جلّ شأنه.


الشرط الآخر الذي نحن بحاجة إليه؛ تماسك الصف ووحدة الكلمة. قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ). وحدة الكلمة وتماسك فصائل الجيش في مواجهة أعداءهم؛ لئن كانوا في الزمن الماضي بين رماةٍ ومقاتلين بالسيف، بين رماة سهامٍ ورماة رماحٍ ومقاتلين بالسيف. أما اليوم، فقد اختلفت آلية المعركة. وعلى كل حال، ينبغي أن يكون هناك قوةٌ في التنسيق، وانسجام في الصف ووحدةٌ في الكلمة، وإقدامٌ لا تراجع معه ولا انهزام. قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) كأنهم جسدٌ واحد؛ اليد تعمل والقلب يعمل واللسان يعمل والقدم تعمل والسلاح يعمل.. كلهم في إقدامٍ لمواجهة عدوهم المناوئ الغادر. هذا هو الشرط الآخر في معركتنا المعاصرة أو معركتنا القديمة؛ صفٌّ واحدٌ وليس صفوفاً متدابرةً.. وكلمةٌ واحدةٌ وليس كلماتٍ مختلفة.


الأمر الثالث الذي نحن بحاجة إليه؛ هو تجنب المعصية. تجنب معصية الله U، فإن من أشدّ ما يمكن أن يهدد معركتنا مع عدونا تفشي المعصية في مجتمعنا وفي جيشنا. ينبغي أن يكون أبناء أمتنا متنزهين عن الهبوط في مستنقعات المعاصي؛ حريصين على طاعة ربهم، فإن زلت بهم الأقدام سارعوا إلى التوبة إلى الله تعالى والإنابة إليه. هذه القلوب الواجفة الخاشعة الملتجئة إلى الله U التي تجتنب المعصية؛ هي التي ستنتصر.. وستنتصر بإذن الله تعالى.


لنعد بالذاكرة إلى معركة أحد، التي لاقى فيها الصحابة الكرام - وكلهم صحابةٌ مؤمنون صادقون مخلصون ليس فيهم منافقٌ كما زعم أحد الجهلة - ليس فيهم نفاق مطلقاً؛ كلهم كانوا على درجةٍ من النقاء والصفاء، إلا أن النفس البشرية قد تزلّ قدمها وتضعف. ولذلك، شرحت الآية القرآنية وقائع ما جرى فقال تعالى في وصف ذلك: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تحبون). إنها المعصية؛ معصية أربعين من جيشٍ قوامه ستمئةٍ وخمسون من الصحابة الكرام؛ أربعون أخطأوا فماذا كانت النتيجة؟ قال سبحانه: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ).


وما هي المشكلة؟ أوصى النبي ﷺ خمسين من الرماة أن يلزموا أماكنهم خلف المسلمين، وما أن بدأت المعركة بدايةً قوية مخلصة من قلوبٍ ثابتة في مواجهة ثلاثة آلافٍ من المشركين، حتى انكشف المشركون وانحسروا من الساحة. وبدأ المسلمون يجمعون مخلفات المشركين، وخلت الساحة إلا من المسلمين، وعلى الرغم من أن النبي ﷺ أوصى الرماة أن يلزموا أماكنهم، إلا أنهم وجدوا أن الساحة قد خلت، فعصى قسمٌ منهم أمر رسول الله ﷺ ونزلوا. فلاحظ ذلك قادة المشركين، وكان في قيادتهم رجلان أسلما فيما بعد: سيدنا خالد وعكرمة بن أبي جهل. فقاموا بعملية التفافٍ على المسلمين من خلف الجبل؛ وفاجأوا المسلمين من خلف صفوفهم، وكادوا يصلون إلى النبي ﷺ. واستشهد من الصحابة الكرام سبعون صحابياً. أربعون أخطأوا وسبعون استشهدوا ! وكادوا يصلون إلى النبي ﷺ، بسبب ضعف نفوسٍ أمام بعض المغريات.


إذن، فالمعصية هي أشدّ خطرٍ يهدد أمتنا وجيشنا ومواجهتنا لعدونا. فعلينا أن نثوب إلى رشدنا، وعلينا أن نتمسك بأوامر ربنا. علينا أن نتوب إلى الله U مما قد يجري في صفوفنا من مخالفةٍ لأمر الله U ومن ظلمٍ لبعضنا.. من أكل ٍللحقوق.. من اعتداءٍ على الأبرياء.. من ظلمٍ فيما بيننا.. وقد ذكرنا الكثير مما يمكن أن يجري في حياتنا من مفاسدَ وانحرافاتٍ وأخطاءٍ؛ هي السبب الأساس في كثيرٍ من مصائبنا وفي مواجهاتنا. قال سبحانه: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).


ومن أعظم مفاتيح النصر الإخلاص لله U. الله يقول سبحانه وتعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ). إن تنصروا الله.. تنصروا الحق.. تنصروا الدعوة.. تنصروا الحقوق التي ائتمنكم الله U عليها. لا نجاهد من أجل أغراضٍ نفسيةٍ، ولا من أجل كرسيٍ، ولا من أجل مغنم، ولا من أجل مطامعَ ولا من أجل جاه؛ وإنما إرضاءً لله U ونصرةً للحق الذي ائتمننا الله سبحانه وتعالى عليه. إن كان سلامة الأمة، أو كان سلامة الأرض التي ينبغي أن ندافع عنها، أو سلامة الأعراض التي يجب أن نصونها؛ كل ذلك ينبغي أن نحميه؛ هذا الذي ائتمننا الله U عليه. أما أن نرفع السلاح في وجه بعضنا أو أن نقاتل من أجل كرسيٍ أو مغنمٍ أو نحو ذلك، فذلك يؤذن بكثيرٍ من أسباب الضعف والوهن والفشل في صفوفنا.


وأخيراً؛ إن من أخطر ما ينبغي الحذر منه المكائد والمكر والمؤامرات الذي يخطط لها خارجياً. وهذه المخاطر تعرّضَ لها المسلمون منذ الصدر الأول وإلى هذا اليوم.. تعرضوا لكثيرٍ منها..


ولنذكر شيئاً مما جرى في عهد النبوة ونقارنه بما يجري في عصرنا. المنافقون؛ تلك الظاهرة المرضيّة السرطانية التي كانت في المجتمع الإسلامي الأول، يمكن أن يوصفوا - بالمصطلح المعاصر - بالعملاء. أنشأوا مسجداً.. وهل هناك أعظم من بناء المسجد لكي يعبد الله فيه؟! إلا أن هذا المسجد كان اسمه مسجداً، وكان في حقيقته وكراً للتآمر على الأمة الإسلامية وعلى النبي ﷺ وأصحابه. أنشأه المنافقون بإيعازٍ من دولة الروم.. من خلال عميلٍ لهم اسمه أبو عامر الراهب.


وفي ذلك قال ربنا تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) سماه مسجداً ضراراً.. إذن، هم باسم الإسلام يريدون أن يحاربوا الإسلام. واليوم نرى من يحارب الإسلام باسم الإسلام، على اختلاف أشكالهم وألوانهم؛ من يرفعون راية (لا إله إلا الله) ويحاربون (لا إله إلا الله)؛ من يدعون نصرة الحق، وهم يحاربون الحق، ويتعاملون مع العدو، ويدعون أنهم يحاربون العدو.


ينبغي أن نكون على درجةٍ كافيةٍ من الوعي للمكائد التي يخطّط لها ويرسم لها خارجياً، أو من قبل أدواتهم في بلادنا هنا وهناك؛ لكي نحمي أمتنا ونحمي تاريخنا ونحمي دعوتنا ونحمي بلادنا من مكائدهم ومن مكرهم. ما لم تكن الأمة على درجةٍ من اليقظة والوعي، فإن هذه المكائد يمكن أن تودي بها، ويمكن أن تؤدي إلى خسارةٍ عظيمةٍ في صفوفنا. نعم؛ نحن اليوم نعاني من مندسين في صفوف المسلمين، يريدون أن يمزقوا الصف الإسلامي.. يريدون أن يوقعوا الفتنة بين الأخ وأخيه.. يريدون أن يمزقوا وطننا هذا وأمتنا هذه. نعم؛ لقد تجاوزنا الكثير من المكائد إلا أننا ينبغي أن نكون على درجةٍ كافيةٍ من الوعي، بحيث نتجاوز جميع تلك المؤمرات والمكائد وذلك المكر.


أسأل الله تعالى أن يحمي أمتنا من المكائد والشر.. وأن يجمع كلمتنا على الحق والهدى.. وأن يفرج عنا فرجاً قريباً.. وبانتظار نصرٍ من الله تعالى قريب.


أسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضيه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة