مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 13/12/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 13 / 12 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 13 /  12/ 2019

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ). ويقول سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). 
أيها المسلمون؛ ذكرنا أن النبي ﷺ بايعه وفد المدينة المنورة بيعة العقبة الثانية، والتي تضمنت الدفاع عن الإسلام والدعوة الإسلامية ممثلة بالنبي ﷺ، بالإضافة إلى طاعة الله ورسوله. وذكرنا أن الصحابة الكرام من قريش من أهل مكة بدؤوا يهاجرون سراً إلى المدينة المنورة، لأنهم وجدوا فيها منعةً وأمناً وسلامةً لهم، يتمكنون من خلال ذلك من أداء شعائرهم والتمسك بدينهم والتزام واجباتهم، التي كان أهل مكة من المشركين يضطهدونهم بسببها. واستمرت الهجرة إلى أن لم يبقَ في مكة إلا النبي ﷺ وسيدنا أبو بكر وسيدنا علي رضي الله تعالى عنهما ومحبوسٌ أو مريضٌ أو هرمٌ عجز عن الهجرة. 
فوجد المشركون في مكة أن المسلمين قد وجدوا لأنفسهم مأمناً ومنعةً، وأنهم أصبحوا يتمكنون من ممارسة شعائرهم وتطبيق تعاليم دينهم بأمنٍ وطمأنينة. فضاق صدرهم بذلك، ووجدوا أن هذا خطرٌ على عقيدتهم وعلى استكبارهم وطغيانهم، فقرروا قتل النبي ﷺ. وحاكوا لذلك مؤامرةً خبيثةً، بحيث يكون قتله على يد مجموعةٍ؛ من كل قبيلةٍ رجلٌ. فإذا ما قتل على أيديهم، توزع دمه بين القبائل، ولم يتمكن بنو هاشم من الثأر له.
وأنزل الله على نبيه ﷺ الوحي بأن يهاجر؛ هم يمكرون، والله تعالى يحبط مكرهم. تقول السيدة عائشة فيما رواه البخاري، وأروي خبرها ملخصاً تقول: (في يومٍ من الأيام أتانا رسول الله في الظهيرة - وقت الحر- متقنعاً – متخفياً متلثماً - فأُخبرنا بأن النبي ﷺ قد جاء. فقال أبو بكر: والله ما جاء به اليوم إلا أمر – أي أمرٌ خطير. واستأذن النبي ﷺ فأُذنَ له، فدخل على بيت أبي بكر وقال: أخرِج مَن عندك؛ أي يريد النساء، ثم إن النبي ﷺ قال لأبي بكر: يا أبا بكر أُذنَ لي بالهجرة. قال: الصحبة يا رسول الله، قال: أجل. فقال أبو بكر: إني قد أعددت راحلتين. قال: إذن بالثمن. أبى أن يأخذ راحلته إلا بالثمن. ثم أعدت الراحلتان أحسن الإعداد ورتب أمر الرحلة للهجرة بحيث تتوفر أسباب السلامة ودليل الطريق والزاد وخرجا في تلك الليلة.
استبقى النبي ﷺ علياً في البيت، وأمره أن يرد الودائع التي كان المشركون يستودعونه إياها، لأن المشركين لم يكونوا يأمنون على ودائعهم إلا النبيَّ ﷺ، فأمره أن يرد إليهم ودائعهم. وكان المتآمرون الذين أرادوا قتل النبي ﷺ قد وقفوا أمام بابه. وخرج من بينهم بعد أن ألقى الله تعالى على رؤوسهم النوم. ومضى إلى درب الهجرة مع سيدنا أبي بكر، حيث اختارا طريقاً غير مطروقةٍ إلى غار ثور. ورُتّب أمر الزاد والسلامة والدليل خير ترتيب. وكلف عبد الله بن أبي بكرٍ  بأن يستطلع خبر قريش ومكائدهم للنبي ﷺ، ثم يخبر النبي ﷺ وأباه بما تخطط قريش وما تمكر وما تكيد.
وبقي النبي  وأبو بكر في غار ثور ثلاثة أيامٍ حتى إذا انقطع البحث ويئست قريش من أن تصل يدها إليهما، مضيا مع الدليل الذي أمناه مع أنه كان مشركاً باتجاه المدينة المنورة. وكان أهل المدينة المسلمون من المهاجرين والأنصار قد علموا بخروج النبي ﷺ، وكانوا كل يوم يخرجون إلى الحرة بانتظار قدومه، حتى إذا كان موعد وصوله استقبلوه أجمل استقبال. 
استقبلوهما بالحب والشوق ﷺ و. فبقي في ديار بني عوف أي (قباء) بضعة عشر يوماً وبنى هنالك مسجد قباء الذي وصفه الله بقوله: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) وصلى فيهم أول صلاة. ثم توجه إلى المدينة المنورة والصحابة من حوله، حتى وصل إلى موطن مسجده اليوم، فقال هذا المنزل إن شاء الله. واستضافه أبو أيوب الأنصاري  ريثما يبنى بيته. 
أيها المسلمون؛ إن أول أساسٍ أرساه النبي ﷺ للمجتمع الإسلامي هو المسجد، فهو وصل إلى قباء وأسس مسجداً ووصل إلى المدينة المنورة واختار المكان الذي كان قد نزل فيه ليكون مسجداً، لأن المسجد هو حاضنة التربية والعلم والوعي، وحاضنة تماسك المجتمع الإسلامي وتحابب أبنائه والمساواة فيما بينهم؛ فهم جميعاً يدخلون المسجد ليسجدوا بين يدي الله . وهم جميعاً يقفون بجانب بعضهم، دون تمييزٍ بين غنيٍ أو فقيرٍ وكبيرٍ أو صغيرٍ وأميرٍ وحقيرٍ. فالمساواة ألغت تلك الفوارق بين أبناء المجتمع ونسجت فيما بينهم نسيج المحبة والمودة والتراحم والتعاطف والتضامن.
أما الأساس الثاني؛ فقد عمد النبي ﷺ إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. آخى بين سيدنا أبي بكر وخارجة بن زيد، وآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وآخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف وهكذا.. وكان المتآخيان يتوارثان في أول الأمر، حتى إذا تكامل وضع المجتمع الإسلامي واستقر نسخ أمر التوارث، وبقيت الأخوة الإيمانية. يقول تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) من المؤمنين والمهاجرين. كان هذا إرساءً لتوطيد العلاقة بين أبناء المجتمع الذين كانوا إلى فترةٍ قريبةٍ متنافرين متعادين، نسج بينهما نسيج المحبة والأخوة والترابط والتعاضد والتضامن. 
أما الأساس الثالث؛ فقد كتب الوثيقة فيما بين سكان المدينة المنورة من مسلمين ويهود. وتعتبر هذه الوثيقة بمثابة دستورٍ للمجتمع الإسلامي الوليد الجديد، وللمدينة المنورة التي تحتضن ذلك المجتمع، والتي تضمنت أن المسلمين من قريش ويثرب ومن لحق بهم أمةٌ من دون الناس، تميزت بهويتها الإسلامية تميزت عن الناس كلهم، عن العالم كله. ولد المجتمع الإسلامي لينطلقوا بالعدالة والمحبة والخير والهدى إلى العالم كله ولكنه ولد هنا في المدينة المنورة.
وبينت هذه الوثيقة التضامن والتكافل والتعاطف فيما بين أهل المدينة، وأن المدينة المنورة لا تؤوي متآمرين ولا مجرمين وأنه لا مكان لمن يؤويهم في المدينة المنورة. ثم تضمنت أن المسلمين من المهاجرين والأنصار أمةٌ وأن اليهود أمةٌ أيضاً، وأن بين المسلمين واليهود تناصراً وتعاضدا ًوتضامناً إزاء كل من أراد بالمدينة شراً. ومضى الأمر على هذه الشاكلة وكان المسلمون بقيادة النبي ﷺ أوفياء للعهد، إلا أن بني النضير وبني قينقاع خانوا العهد ونقضوا المعاهدة، والمدينة المنورة لا مكان فيها للخونة وناقضي العهود، لذلك طردهم النبي ﷺ.
أيها المسلمون؛ ولادة المجتمع الإسلامي وأسسه تعتبر نموذجاً يحتذى وأساساً لوجودنا نحن أبناء الأمة الإسلامية. العدو يريدنا مشتتين ممزقين متفرقين؛ يقتل بعضنا بعضاً ويحارب بعضنا بعضاً، والإسلام يقول لنا: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) ويقول لنا: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ويقول لنا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).
يطرح العدو من خلال أدواته وعملائه حججاً، بغية تفتيت الأمة الإسلامية والمجتمع؛ تارةً بعاملٍ عرقي: هذا تركي.. وهذا كردي .. إلخ. الإسلام لفظَ كل عوامل الفرقة فيما بين أبناء الأمة، ولذلك جعل الرابطة رابطة الإيمان، وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌۚ) وقال النبي ﷺ: (سلمان منا آل البيت) نسبه إلى آل بيت النبوة، وهو فارسي جاء من بلاد الفرس. إذن لا مكان للفرقة والتمزين على أسسٍ عرقية.
وتارةً يحتجون بالعامل الديني؛ هذا مسلمٌ وذاك نصرانيٌ والآخر بوذيّ.. الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي احتضنا أتباع الرسالات السماوية وتقبل المجتمع الإسلامي الآخرين بكل سعة صدر، وما بقاء اليهود في المدينة المنورة بموجب الوثيقة إلا دليلٌ واضحٌ وصريحٌ على أن المجتمع الإسلامي لا يرفض الآخر، يتقبله ويرعاه، ولهم ما لنا وعليهم ما علينا ضمن هذا الوطن. ثم إن العهدة العمرية تؤكد هذا المعنى، حتى غدت كنائس النصارى ومعابدهم وصلبانهم تحت حماية المسلمين ورعايتهم، لا تُمس بسوء ولا تُنال بأذى ولهم كامل حريتهم الاعتقادية.
وضمن الإسلام سلامة أبناء الأمة الإسلامية؛ بمن فيهم البوذيون والهندوس. دخل الإسلام إيران وكان فيها الزردشتية.. ودخل إلى الهند وكان فيها البوذية والهندوسية.. ولا تزال معابدهم؛ أُبقيت لهم معابدهم وتُركت لهم عقيدتهم، إذ المبدأ عندنا: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). ضمن الإسلام والمجتمع الإسلامي سلامة أبناء المعتقدات الأخرى في ظل المجتمع الإسلامي. 
والمجتمع الإسلامي لم يسئ للمخالفين ولا ضير، ولكن دون أن يخونوا، لأن المجتمع الإسلامي لا يتسع للخونة ولا للمجرمين. عندما خان اليهود طردوا، ولم يكرر جريمتهم غيرهم بعد ذلك. ولذلك بقيت كنائس النصارى وبيع اليهود ومعابد الملل الأخرى مصانةً محفوظةً مضمونةً في ظل المجتمع الإسلامي.
يحاولون تمزيق الأمة الإسلامية بشتى الوسائل. ومن عجبٍ أنهم يبثون فينا عوامل الفرقة والنزاع، بينما هم لغاتٌ شتى وانتماءاتٌ شتى ومذاهبُ شتى؛ الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، مذاهب مختلفة لدينٍ واحد، ومع ذلك فإنهم يستظلون تحت ظل الاتحاد الأوروبي، متعاونين متضامنين بعملةٍ اقتصاديةٍ واحدةٍ واتجاهٍ سياسيٍ واحد. ثم هم أنفسهم يريدون منا أن نتنازع فيما بيننا، بحجة أن هذا له مذهبٌ وهذا له مذهبٌ، وأن هؤلاء مسلمون وأولئك نصارى. والنصارى نحن الذين رعيناهم، وهم في عهدتنا وأبناء وطننا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
الذين يريدون إثارة الفتنة في بلادنا هؤلاء لهم أدواتٌ عندنا، يستخدمونها لكي يثيروا الفتنة بين الأخ وأخيه، ولكي يقولوا: لا تقبلوا الآخر. نحن علمَّنا الإسلام أن نتقبلَ الآخر، ولو كان على عقيدةٍ أخرى مخالفة؛ يعيش فيما بيننا ولا إكراه في الدين.
لكنهم قد ضاقوا ذرعاً بتماسك مجتمعنا ومتانة روابطه، وكيف يمكن أن يعيش الناس في دمشق أو غيرها: مسلمٌ ونصرانيٌ متجاورين، سنيٌ وشيعيٌ متجاورين إلى آخر ما هنالك.. ضاق صدرهم بذلك لأنه يريدون إثارة الفتنة وتمزيق الوطن وتمزيق الأمة.
ونحن نقول: إن الوحدة الوطنية التي أرساها إسلامنا في المدينة المنورة والمجتمع الإسلامي الأول أمانةٌ في أعناقنا، ووطننا يتسع لكل أبنائه وبكل أطيافه، ومن ضاق ذرعاً بهذا وأراد إلغاء المجتمع من أجله، أو من أجل فئته، فليختر غير هذا الوطن، إذ ليس في وطننا متسعٌ لمن يريد تمزيق وطننا وتفتيت أمتنا.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل