مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 11/10/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ


د. محمد توفيق رمضان البوطي


تاريخ الخطبة: 11/10/2019 


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنّا عز شأنه في كتابة الكريم: (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ويقول سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ويقول سبحانه: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وروى مسلمٌ عن النّبي e أنه قال: ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)).


أيّها المسلمون؛ وحدة هذه الأمّة قرارٌ إلهيٌّ. ما ينبغي أن نناقض هذا القرار الإلهيّ بأهواءٍ أو بولاءٍ لجهةٍ مناوئةٍ، أو بمصلحةٍ دنيئةٍ لفريقٍ في مواجهة فريقٍ آخر. ولقد ائتمننا الله تعالى على وحدة هذه الأمّة، فأمرنا أن نجتمع على الهدى والحقّ. على كتاب الله وعلى سنّة رسول الله e، على سبيل الرّشد، عندما قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) ليس الاعتصام على محاور سياسيّة، وليس الاعتصام على أحلافٍ دوليّة، وإنما الاعتصام بحبل الله الذي عقد فيما بيننا رباط الأخوّة، وائتمننا على هذه الأخوة، فقال: (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).


ومن عجبٍ أننا نجد اليوم أمماً مختلفة اللّغات والأعراق ومتناقضة المذاهب تجد أن مصلحتها الاقتصادية ومواجهتها للتحديات التي تعترضها تقتضي أن تتحالف وتتعاون وتتآزر، فتتحد وتتعاون وتتآزر؛ على الرغم من تباين أعراقهم ولغاتهم وانتماءاتهم؛ ذلك لأن المصلحة الدنيوية تقتضي منهم ذلك. بينما أمتنا التي نجد أن لغة القرآن تجمعها وأن دين الإسلام يوحّدها، تجد أن انحرافاً عن هذا النهج الذي ائتمننا الله تبارك وتعالى عليه؛ قد غلب على نفوس أولئك الذين انحنت هاماتهم لعدوّهم، ورهنوا أنفسهم لخدمة أجنداتٍ وبرامج معاديةٍ لهم، فصاروا في خدمة تلك البرامج.. في خدمة أعدائهم، في خدمة من يتربّص بهم.. في خدمة من يجد أن مصلحته في تمزيق هذه الأمة وتفريق وحدتها وتشتيت شملها. تجد الأخ يقاتل أخاه؛ علامَ؟ وفيمَ يصطنعون أسباب الخلاف والنّزاع. هم - أعني الأعداء - يتّحدون على اختلافهم، ونحن نتنازع مع وجود الجامع الواحد فيما بيننا.


وهذا مما يثير العجب من أمّةٍ تحكم على نفسها بالفناء.. تحكم على نفسها بالذّل والمهانة.. تحكم على نفسها بالفرقة والتشتّت.. وقد جمع الله شملها ووحّد صفّها ألم يقل: (إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا). كيف كانت أمّتنا قبيل الإسلام؟ كانت أشلاءً وأشتاتاً، تتحكم بها دولة الفرس ودولة الرّوم، فإذا بها خلال سنوات من عمر التاريخ تصبح أمةً واحدةً، وتمضي لتنضوي دولة الفرس تحت رايتها، في ظل عدالةٍ تسوّي بين أبنائها. وتنضوي البلاد التي كان يحتلها الرّوم تحت رايتها، وتصبح كلّها وطناً واحداً ينصاع لنظامٍ واحدٍ ودولةٍ واحدةٍ، يجتمع شملها وترتفع راياتها بالعزّ والسؤدد والكرامة، لتحقّق في صفحة التاريخ أعظم الإنجازات.


لمصلحة من تفتح حدودنا للعصابات الإرهابية وللمجرمين الذين جاؤوا من أشتات الأرض، من هنا وهناك ليعيثوا في وطننا فساداً وليخرّبوا وينشروا القتل والدمار في بلادنا؟! سلوه.. سلوا ذلك المأفون الذي جعل من بلاده جسراً ومعبراً للعصابات المجرمة لتعيث في وطننا فساداً، ولكي تلجئ أبناء بلدنا للخروج من بلدهم والنّزوح إلى هنا وهناك، ليتشتّتوا في أرجاء الأرض، تحت وطأة الإرهاب الذي نشره في بلادنا.. نشر القتل والدّمار في بلادنا.. ولم يكتفِ بذلك، بل عدا وتجاوز الحدود ونشر قوّاته لتحمي تلك العصابات وتدافع عنها. وها هو ذا يتمادى في عدوانه وإجرامه فيدخل بلادنا.


ينظر المرء إلى تعاليم ديننا الذي يدّعي أنه ينتسب إليه ويدّعي الإسلام، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)! ما بالك تعتدي على وطنٍ وبلدٍ وأمةٍ يقتضي إسلامك أن تكون لهم عوناً وأنت تكون لهم سنداً، فكنت لهم عدوّاً، وكنت لهم خصماً وكنت مدمراً وقاتلاً! يضيق الوقت عن أن نشرح جرائمه في بلادنا؛ كلّكم يعرفها والعالم يعرفها، والتاريخ قد سجّلها في أسود صفحاته عنه. لقد مارس أنواع الجرائم في حقّ بلدنا.


لو أننا سألنا، إذا وضعنا شرعنا جانباً - باعتباره قد تنكّر لشرعه وتنكر لدينه - وأتينا إلى ما يسمّى بالشّرعية الدولية؛ أين موقع شرعيّة تصرفاته ضدّ بلدٍ مجاورٍ؟! ضدّ وطنٍ مجاورٍ؟! بأيّ حقٍّ يتدخّل في شأن بلدٍ حرٍّ له سيادته، فيتدخل بشأنه، ويدعم العصابات المجرمة التي أدخلها والتي انطلقت من حدوده، لكي تنشر في بلدنا الفوضى والدّمار؟! يدعي أنه يحارب الإرهاب.. وهل كان هو إلا حاضناً للإرهاب والحامي لعصاباته؟! وهل نشأ الإرهاب وترعرع إلا في أحضانه؟! إلا من خلال نشاطاته الإجرامية؟!


لمصلحة من يمارس هذا المأفون دوره القذر هنا وهناك ولا سيّما في الأيام الأخيرة؟! يحتال على العالم، ويقول إنه يريد أن يحافظ على وحدة سورية! وحدة سورية قرارٌ سياديٌّ لا يحتاج إلى قرارٍ منك ولا إلى عطفٍ منك.


أنت انتبه إلى وضعك..حافظ على وطنك..حافظ على سلامة أمتك..احفظ كرامة شعبك الذي أهنته.. احفظ كرامة أمتك التي مزّقتها بأنانيّتك وطغيانك وكبرياءك، عندما تجاوزت على حقوق أمّتك، وعندما زعمت ما زعمت بحقّ مواطنيك، فملأت سجونك بمن هم أبناء بلدك وأبناء أمّتك. ثم تزعم أنّك تريد أن تحارب الإرهاب في بلدنا! تدعي أنك تحارب الإرهاب في وطننا!   قف عند حدودك، ولا تتدخّل بشأن وطنٍ آخر. ولا تدّعِ أنك تحارب الإرهاب، وأنت الذي صنعت الإرهاب في هذه المنطقة.. وأنت الذي دعمت الإرهاب في هذه المنطقة.. وهل ترعرع الإرهاب وتنامى إلا من خلال دعمك وتأييدك وحمايتك؟!


أين هي الشرعية الدولية؟! طبعاً، عندما يجد أسيادَه يتجاوزون على الشرعية الدولية، هو سوف يقتفي أثرهم ويستعلي على الشرعية الدولية، ويتجاوز المنظمات الدولية. يتجاوز ما يسمى بهيئة الأمم، ويتجاوز ما يسمى بمجلس الأمن في شأن دولٍ مستقلةٍ ذات سيادة. على أيّ أساسٍ؟! وما الهدف؟! الهدف واضحٌ؛ هو عميلٌ، ويريد أن يقدّم صكوك العمالة ويقدم أدلّة الارتهان للبرامج الخارجيّة.. يريد أن يحقق للعدو الصهيونيّ - المستفيد الأول من هذا الوضع الذي نعيشه - يريد أن يؤمن له حالة ضعفٍ في وطننا. لكن وطننا بفضل الله بعد تسع سنواتٍ من المعاناة والإجرام والبغي والعدوان، قد تجاوز المؤامرة. وكما تجاوزها في مراحلها التي قطعناها ولله الحمد وانتصر عليها، سيتجاوز هذا العدوان. سيتجاوز عدوان هذا المجرم، وسوف يلحق به الهزيمة بإذن الله.. وعلى الباغي تدور الدوائر.


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرّج عن أمتنا وأن يجمع شملنا وأن يوحّد صفوفنا، وأن يلهم أبناء أمتنا العودة إلى حياض دينهم.. العودة إلى منطق الوحدة بدلاً من منطق التمزّق..إلى منطق التّآلف والتّحابب بدلاً من منطق الحقد والضغينة.. وأن يغمدوا سيوفهم إلا عن عدوٍّ واحد يتربّع على مقدّساتنا، لا أن يتحالفوا مع العدوّ على إخوانهم وأبناء أمتهم.


أسأل الله تعالى أن يجعل كيد من يكيد هذه الأمة في نحره، ومكر من يمكر بها عائداً عليه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة