مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 10/07/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 10 / 7 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 10 /  7 / 2020


أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا جل شأنه في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). ويقول سبحانه في وصف يوم القيامة: (وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).


أيها المسلمون، يعاني المجتمع الإنساني - ومجتمعنا جزءٌ منه - من حالةٍ من الضياع تردى إليها، فأدت إلى انحرافٍ سلوكي وضياعٍ فكري وتصرفاتٍ شاذة وتسربٍ دراسي إلى آخر ما هنالك؛ مما أفضى بالمجتمعات الإنسانية إلى الخطأ والجريمة، وإلى تفشي عاداتٍ سيئةٍ قاتلة، كالمخدرات ونحوها، والتي أدت بآثارها إلى أسوأ النتائج السلوكية والصحية. كما أن المجتمع الإنساني يعاني من انحرافاتٍ سلوكيةٍ وصلت إلينا عن طريق التبعية العمياء للمجتمعات المتفسخة، باسم التقدم والانفتاح والتحرر، وأفضت بالمجتمع الإنساني وببعض أبناء مجتمعنا إلى التفلّت من الضوابط الأخلاقية. حتى عدّوا التمسك بالفضائل والحشمة والتصوّن تخلفاً وجموداً، وعدّوا الحياء نوعاً من الجمود الفكري والسلوكي، وعدوا التفلّت الأخلاقي والفجور تقدماً وانفتاحاً وللأسف!


لقد نجمت عن هذه الحالة نتائج وخيمة، وللأسف، فقد تمزقت الأسرة وشاع العقوق، وأنا أتحدث عن المجتمع الإنساني، وقد يكون مجتمعنا متأثراً بذلك، وتقطعت الصلة بين الأرحام، وتفشت الجريمة. كل ذلك أيضاً بالإضافة إلى انعدام القيم الأخلاقية التي تمنع من الكذب والغش والخداع؛ فتفشى إخلاف الوعد والكذب في الحديث، وضعفت الثقة بين الناس، مما أدى إلى انهيار كثيرٍ من المشاريع البناءة التي يمكن أن تؤدي إلى نهوض المجتمع وتقدمه.


ما السبب الذي أفضى بنا إلى كل ذلك؟ ما السبب الذي أفضى بالمجتمع الإنساني وببعض أبناء مجتمعنا إلى ذلك؟


أولاً: إهمال الأسرة لتربية أبنائها وبناتها؛ عهدت بتربيتهم إلى الشارع وأصدقاء السوء ووسائل الإعلام والتواصل، فغدت النافذة المطلة على أقذر أنواع الموبقات المثل الأعلى لسلوكهم. أليس كذلك؟ هذا بالإضافة إلى أن الأسرة لم تعد تفكر بمسؤوليتها؛ ألم يقل الله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). لم تعد تفكر بالمسؤولية عن أبنائها وبناتها؛ فالأب منصرفٌ إلى بعض أموره، ولا أقول إلى رزقه. فالبحث عن الرزق لا يمنعنا من التربية، ولا يمنعنا من ضبط سلوك أبنائنا وبناتنا. كم من أسرةٍ فقيرةٍ سمت أخلاق أبنائها وبناتها إلى أسمى درجات الفضائل والأخلاق الرفيعة. وكم من أسرةٍ مكتفيةٍ ذات سعة تفلّت أبناؤها وطغوا إلى أبشع أنواع الطغيان.


السبب الآخر هو الغزو الثقافي الذي نتعرض له من قبل وسائل الإعلام ووسائل التواصل التي لم تعد أمينةً على العقل ولا على السلوك ولا على الأخلاق؛ نشرت أنواع الموبقات وأنواع الفساد مما يؤسف له. وكنا نأمل أن يكون الإعلام عندنا في مستوى المسؤولية، ولكن نرجو أن يرتقي إلى ذلك المستوى.


الأمر الآخر، المؤسسة التعليمية هي المسؤولة عن أبنائنا وبناتنا؛ عن النهضة العلمية لمجتمعنا وعن الجانب التربوي في بناء شخصية الطالب والطالبة، والفتى والفتاة، والشاب والشابة؛ من خلال مؤسساتنا التعليمية بدءاً من المراحل الأولى وانتهاءً عند التخصص. ينبغي أن نعترف أن ثمة تقصيراً في المؤسسات التعليمية بصفةٍ عامة، ونأمل ألا يكون مثلُ ذلك في مؤسساتنا التعليمية. ولكن مما لا شك أن ثمة مشاكل تعاني منها المؤسسة التعليمية في بلادنا... وفي مجتمعاتنا أيضاً. وهذا شيءٌ يعرفه كل منا ويدرك آثاره ونتائجه.


ثم المؤسسة الإعلامية ينبغي أن تكون بعد هذا الوصف الذي وصفته؛ أقول: إن المأمول والمطلوب من هذه المؤسسات أن تكون في مستوى المسؤولية؛ بأن تكون أمينةً على تاريخ أمتنا وقضاياها وحضارتها ومبادئها وقيمها. وأن تكون مترفعةً عن الفن الهابط الذي شاع في وسائل الإعلام كلها، أن نكون أسمى من ذلك المستوى، المأمول أن يكون الفن عندنا خدمةً للمبادئ وخدمةً للقيم وبناءً لشخصية المواطن الصالح، بناءً للأسرة المتماسكة. هذا هو المأمول من وسيلة الإعلام عندنا؛ أن تكون في مستوى قضايا الأمة الوطنية والاجتماعية.


أما المؤسسة الدينية، فإنها مسؤولةٌ عن نشر الأخلاق القويمة والوعي الديني والاجتماعي؛ من خلال بناء عقلٍ متنورٍ يؤمن بالعقيدة علمياً؛ يبني عقيدته على أسسٍ علميةٍ؛ على أسسٍ من اليقين والقناعة وليس على أسسٍ من التبعية والعفوية ونحوها؛ ببناء عقلٍ موقنٍ بالعقيدة وبناء سلوكٍ وأخلاقٍ ساميةٍ راقيةٍ، بناء وعيٍ لقضايا المجتمع وقضايا الأمة. ولا شك أن المؤسسة الدينية تنهض بهذا الأمر، وهي في مستوى المسؤولية ولله الحمد، ولكنها تحتاج في ذلك إلى وضع منهجٍ قويٍ لتزكية القلوب، كما أمر ربنا تبارك وتعالى عندما قال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا). فالمؤسسة الدينية مسؤولةٌ عن وضع خطةٍ لتزكية النفوس؛ للسمو بأخلاق أبناء أمتنا ونفوسهم وقلوبهم، حتى تغدو أوعيةً لمخافة الله ومحبة الله وخشية الله. ومن ثم ينضبط سلوك الفرد من خلال ذلك بما ينبغي من السمو والفداء والتضحية والإيثار والكرم والسخاء.


لن نستطيع أن نحقق ذلك كله على مستوى المؤسسات كلها إلا من خلال وضع منطلقاتٍ متفقٍ عليها؛ تلتقي على بناء مجتمعٍ نظيفٍ قويٍ متماسكٍ حريصٍ على سلامة الوطن والأمة؛ من خلال تربيةٍ إيمانيةٍ متينةٍ تنمي في الفرد مخافة الله ومحبته والوازع القلبي الوجداني، وأن تضع نصب عينيها المسؤولية بين يدي الله U غداً، (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). يوم نمثل بين يدي الله U، قال سبحانه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). بمراقبة الله واستشعار خطورة الموقف بين يديه، قال سبحانه: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ). يوم نقف بين يدي الله تعالى حيث يقول: (هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).


أن يضع الجميع، على مختلف اختصاصاتنا وفي جميع مؤسساتنا، نصب أعيننا هدفاً عظيماً هو بناء المواطن الصالح الذي ينهض بمسؤولية أمته ومسؤولية أسرته ويصون هذا المجتمع ويحرص على تماسك الأسرة وتماسك المجتمع وتربية الجيل وإنشاء الشباب الناهض القوي الذي يعتبر طاقةً بناءةً في كيان هذه الأمة وليس مشكلةً تعترض نموها وحضارتها.


أسأل الله سبحانه وتعلى أن يجمع كلمتنا على الحق والتقوى وأن يردنا إلى دينه رداً جميعاً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي