إنَّ علماء الأخلاق قديماً وحديثاً اهتموا بالبحث عن ميزانٍ يبرز للإنسان المنهج العدل المستقيم في السلوك، ولكنَّ جهودهم هذه باءت بالفشل؛ ذلك لأنَّ هؤلاء العلماء انتهوا إلى أنَّ الناس يتأثرون بعاملِ النسبية التي يلعب دوراً كبيراً فيها المنهجُ التربويُّ الذي يتلقاه الفرد والمجتمع، والعواملُ المصلحيةُ المختلفةُ المتعارضةُ التي تتصارع في دنيا الناس.
العالم البريطاني (جيرمي بنثام) ألَّفَ كتاباً كبيراً سماه أصول الشرائع، انتهى في آخر كتابه إلى أنه لا يمكن للمجتمعات الإنسانية أن تجتمع على أصولٍ شرائعيةٍ تُبرِز خطَّ العدالة والوسطية ثم تتلاقى عليه جميعاً، ومن ثم فلا يمكن لميزانٍ يجمع هؤلاء الأشتات جميعاً ليتفقوا على خطٍ سلوكيٍّ واحدٍ.
الشريعة الإسلامية استطاعت أن تحقق ما لم يستطع أن يحققه هؤلاء الباحثون؛ لأنَّهم بحثوا من معينِ رؤيةِ الإنسان لمصالحه، والمصالح لا بدَّ أن تختلف ما دام الناس جميعاً لا يعودون إلى مرجعٍ أعلى، بينما الشريعة الإسلامية تأخذ أحكامها من النظر إلى ما يمليه الله عزَّ وجلَّ على عباده.
حدثهم الله عزَّ وجلَّ عن حاجة الإنسان الحقيقية التي قد تغشى عليها مصالحُ أنانيةٌ، حدثهم عن الفطرة الإنسانية التي تمثل القاسم المشترك بين الناس جميعاً، ثم حدثهم عن حقيقة هذه الحياة، فهي ليست دارَ خلودٍ وليست داراً تافهةً أيضاً.
ووضع لنا المحور الذي من خلاله ندرك الأخلاقَ الثابتة، ونبهنا إلى جوانبَ متطورةٍ في هذه الحياة، فينبغي أن تُغطَّى أيضاً بشرائعَ متطورةٍ، فثباتها تغيرها؛ أي: ثباتُ هذه الشرائع أن تتطور، لكن طبقَ منهجٍ وحسب تطور الحياة الذاتية.
الأحكام التشريعية المتعلقة بتعامل الناس بعضهم مع بعض منطلقُهَا العدلُ، والعدلُ يظلُّ ثابتاً لا يتبدَّلُ ولا يتغيَّرُ، ولكنَّ ميزان العدل هذا في كثيرٍ من الأحيان يقتضي أن نتطور، ويقتضي أن نبدل بعض الأحكام الجزئية، هنالك أشياء فيما مضى لم تكن تتمتع بقيمةٍ ماليةٍ، وهذا يقتضي ألَّا يجوزَ التعاملُ في بيعها وشرائها، لأنَّ بيعها وشرائها يلحق بالناس ضرراً، ثم إنَّ الأمر اختلف، فبعدما تقدَّمت العلوم تبيَّن مثلاً أنَّ حيواناً أصبحَ مصدراً لكنزٍ ماليٍّ كبيرٍ ووفيرٍ، فالحكم يختلف ويصبح هذا الشيء خاضعاً لعملية التبادل الشرائي، ولكنَّ العدالة بقيت هي الأساس، وبقيت هي الحكم الثابت.
كذلك قواعد وضوابط للمروءة، المروءة مستوىً تقتضيه العدالة في المجتمعات، فالإنسان التي سقطت مروءته لا يعتدَّ بشهادته، ولكن ما هي موازين المروءة؟ موازين المروءة هي أن ينسجم الإنسان مع أعرافِ مجتمعه العامَّة التي سكت عنها الشارع، وهذه الموازين تتبدل وتتغير من عصرٍ لعصرٍ.