الفتوى رقم #58203
التاريخ: 27/10/2018
المفتي: الشيخ محمد الفحام
الاعتماد على الأعمال
التصنيف:
الرقائق والأذكار والسلوك
السؤال
السلام عليكم قرأت من شرح الحكم العطائية للعلامة الدكتور البوطي في شرح الحكمة الاولى من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وقوع الزلل و قد فهمت من كلامه ان على الانسان ان يعمل الاعمال الصالحة من منطلق العبودية و لا يجب ان يعتقد ان العمل سبب في دخوله للجنة و ان هذا الاعتقاد باطل و الذي يعتقد ان العمل هو الذي يدخله الجنة كأنه اصبح عبدا لهذا العمل .. ولكن قد قرأت في كتاب أيها الولد للامام الغزالي قوله ( و دليل الاعمال أكثر من ان يحصى وان كان يبلغ الجنة بفضل الله و كرمه لكن بعد ان يستعد بطاعته و عبادته لان رحمة الله قريب من المحسنين) فالامام الغزالي أقر في كتابه ان الانسان لا يدخل الجنة إلا بالعمل و كرر هذا المعنى في مواضع عديدة من كتابه فكيف نستطيع التوفيق بين كلام العلامة البوطي و الامام الغزالي
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته, وبعد؛ فإنَّه ليس بين كلام الشَّيخين الجليلين تبايُنٌ, بل كلُّ التوافق لدى المتدبِّر, ذلك أنَّ كلامَ الإمام الشهيد يشير إلى الأصل في قضية التعامل بين العبد والربِّ, وأنَّ الأدبَ يقتضينا أنْ لا نَنْسَى فضلَ اللهِ تعالى في أَمْرِ التوفيق إلى الطاعات التي كَلَّفَ بها سبحانه وبذلك يُدركُ أنَّ العمل ليس ثمناً لدخولِ الجنة بل مجرَّد سبب, وهذا ما أشار إليه الإمامُ الغزاليُّ رضي الله تعالى عنه, ثم زادَ بقولِه وإنْ كان يَبْلُغُ الجنَّة بفضلِ اللهِ وكرمِه بعد أنْ يستعدَّ بطاعته وعبادته لأنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ من المحسنين, نعم! ذلك أنَّ المحسنَ لما عبد الله تعالى لأجلِه سبحانه أكرمه بالجنة, بل إنَّ بيانَ اللهِ تعالى يوضِّحُ أنه لا تقابلَ بين عملِ العبدِ وفضلِ الربِّ قال تعالى: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ومعلومٌ أنَّ الزيادةَ تلك أعلى مِنَ الجنة لأنها رؤيةُ الله تعالى, وخبرني بربِّك هل نعيمُ رؤية الله تعالى كنعيم الجنة فلو كانتِ المسألةُ مرتبطةً فقط بالاستحقاق لَلَزِمَ أن نقول هي تجارة بين طرفين متكافئين _حاشى لله_ فهل قال بهذا عاقل سليمُ العقيدة وهو يعلم أنَّ الخالقَ والموفِّقَ والْمُيَسِّرَ للعمل إنما هو الله القائل: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) والقائل: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ) والقائل: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) والقائل: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً) نعم! والقائل: (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب ما اخْتَرتُم مِن العمل الصالح الذي دلَلْناكم عليه بقولنا: (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وقولنا: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) فالإمام الشهيد البوطي رحمه الله تعالى يُشيرُ إلى وسيع رحمة الله تعالى والإمامُ الغزالي رحمه الله يُشير إلى سببية الدخول إلى الجنة ولا تناقضَ في ذلك عقلاً ولا نقلاً.
هذا؛ وفي البخاري وغيرِه يقولُ عليه الصلاة والسلام: (لن يُدْخِلَ أحدَكم الجنةَ عملُه) قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمَّدَنيَ اللهُ برحمتِه)
وعليه؛ فكلُّ القصدِ مِنَ الحكمةِ العطائية أنَّ مَن يَعتمد على ما قدَّم من عمل يدل بذلك على غفلتِه عن مَطْلَبِ الرضى عن الله عند أوَّل بلاء, ويتعثَّرُ عن مَعْرفة الوصول إلى ساحةِ الرحمة الإلهية بخطر رؤية الاستحقاق من العمل مع سيده ومولاه ومالكِه على وجه الحقيقة, وكأنَّ لسانَ الحال منه يقول: أَبَعْدَ ما قَدَّمْتُ مِن عمل أقعُ فيما وقَعْتُ فيه مِنَ المعاصي والزَّلل, فييأس بدلا من العُكوف في محرابِ العبودية طالباً الرحمةَ والمغفرة والعفو مع العافية. وفيه الدليل على أنه اعتمد على عمله لا على فضل الله تعالى وكرمه.
وهنا السؤال: أفَبَعْدَ كرم الله في الاستحقاقِ بسببيةٍ خلقَها المالِكُ الخلَّاق ووهبَها لعبدِه ومملوكِه سَتراً وفَضْلاً ومِنَّةً وكرماً يُقابِلُ جُزءَ اختيارِه للعمل الصالح _الذي وُفِّقَ إليه_ بمطلق الرحمة والفضل والعفو ودخول الجنة ؟؟
وعزَّة الله ما قال بها إلا قاصرُ النَّظر عديمُ الفهم غافلُ القلب, فاللهم أدخلنا وسيعَ رحمتِك ومُنَّ علينا بالقبول وشفِّع فينا سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم.